إن حياة بطلة اليوم التي نتحدث عنها ، حياة قصيرة للغاية ، فقد عاشت ستة وثلاثون عاماً في الحياة فقط ، لكنها صنعت فيهم مجدها وكأنها عاشت مائة عام ، نعم فموهبتها الفذة التي أهلتها لتكون من أفضل الممثلات والراقصات والمطربات ، في مصر ، بل والعالم العربي بأكمله.
وعلى الرغم من أنها راقصة ، إلا إنها لم تتعرى أبداً في أفلامها ، ولم تستخدم الإغراء في صناعة إسمها ، بل على العكس من ذلك ، فرغم أننا نتحدث عن راقصة قد إرتدت بدل الرقص في أفلامها ، إلا أننا لم نندهش من كم إحترام الناس لها ولفنها ، لأنها بالفعل كانت تمثل وتغني وترقص بإحساس راقي ، رغم مولدها في سيرك عاكف ، هذا السيرك الشعبي الذي صنع بدايتها ونجوميتها الأولي في طنطا ، ثم في مصر، ثم في العالم العربي.
في سن الرابعة من عمرها ، أراد والدها أن يمرنها على الفن ، ولكنها لم تستجب ، ففكر في فكرة ذكية ، وهي أن يقوم بتدريب شقيقتها أمامها ، حتى تفكر في الأمر وتقلدها ، وبالفعل ، بدأ تغير من شقيقتها ، خاصة أن والدها كان يستفذها بأنها لا تعرف ما تعرفه شقيقتها من أمور السيرك ، فتدربت على الإكروبات في أسبوع واحد فقط حتى أصبحت نجمة الفرقة الأولي .
وبدأت نعيمة في الشقلبة والرقص والحركات البهلوانية ، أمام جمهورها العريض من الفلاحين في البداية ، ولكنها كانت شخصية متمردة ، لدرجة أنها قد هربت ذات يوماً من أسرتها وهي غاضبة منهم ، ولكن مجموعة من جمهورها بالسيرك يعرفها جيداً ، كان قد قابلوها وعرفوا بأمر هربها ، فأقنعوها بالعودة إلي سيرك والدها عاكف ، وقد خصص لها والدها مصروفاً قرشين حتى يشجعها.
ولدت في مدينة طنطا ، داخل سيرك عاكف ، حيث كان يقدم إحتفلات، الموالد ، والأفراح ، فعاشت بين حيوانات السيرك ، الأليفة منها والمتوحشة ، ولكن والدها عندما تزوج غير أمها ، سافرت والدتها إلي القاهرة وأخذتها معها وعاشت في شارع محمد علي باشا ، في شقة بسيطة ، ومنها إلي ملهى الكيت كات ، والذي كان يذهب إليه معظم نجوم السينما.
وتعرفت على المخرج أحمد كامل مرسي ، فأخذها في فيلم ست البيت في رقصة ، ومن هذا الفيلم ، أعجب بها المخرج حسين فوزي ، ليأخذها مباشرة لتشارك ، بفيلم العيش والملح ، ثم بعده مباشرة ، مضى معها عقد إحتكار ، وكانت البطولة الأولى ، فيلم ، لهاليبو، ورغم وجود فارق سن كبير، بينها وبين حسين فوزي ، إلا أنه قد تزوجها ونقلها من شارع محمد على ، إلى فيلا بمصر الجديدة ، وتوالت النجاحات الكبيرة ، تمر حنة ، يا حلاوة الحب ، بابا عريس، بلدي وخفة ، فتاة السيرك ، جنة ونار ، وافلام اخرى كثيرة وصلت إلي خمسة عشر فيلماً ناجحاً.
نعيمة عاكف قدمت الرقص الشرقي والغناء ، والمونولوج، والإستعراضات ، كما لم تقدمها غيرها من قبل ، لكن حظها كان قليلاً بالحياة ، تزوجت مرتين ، الأولى ، من المخرج حسين فوزي ، والثانية من المحاسب القانوني ، صلاح الدين عبد العليم ، وكانت قد تعرفت عليه ، بعد وقوع الطلاق من حسين فوزي ، فالغيرة جعلت الحياة بينهما صعبة للغاية نتيجة إنطلاق نعيمة وسفرياتها المتعددة ، فطلقا من حسين فوزي عام 1958م ، في هدوء بعدماأخرج لها 15فيلماً ، أخرهم ، بحبك يا حسن ، خرج لها ، وبعدها بعاماً واحداً فقط ، وعندما ذهبت لإستشارة المحاسب صلاح الدين عبد العليم ، في أمراً لها ، أحبها فتزوجها ، وأنجبت منه ولدها الوحيد محمد ، ولكنه كان شديد التحفظ معها وفي طريقة ملبسها وخروجها ، بعكس الزوج الفنان المخرج ، الذي كان يتفهم طبيعة عملها أكثر بكثير من الأخر.
إن شخصية نعيمة عاكف التي إكتسبتها من الحياة ، ومن الظروف التي عاشت فيها ، جعلتها قوية للدرجة التي تستطيع أن تتحدى نفسها قبل أن تتحدى غيرها ، ففهمت وعرفت بأن الحياة قصيرة وعليها ، أن تفعل ما تريده بل وتنتزعه بمنتهي القوة من فم الأسد الذي تربت بجواره في السيرك ، والدليل على ذلك ، حكايتها مع علي الكساروبديعة مصابني ورقصة الكلاكيت.
فقد سمع علي الكسار عن بهلونات الشوارع ، ففكر أن يستعين بنعيمة عاكف ، مقابل أن يعطيها إثنى عشرجنيهاً في الشهر ، لتعمل هي وشقيقاتها في الفرقة ، وظهرت نعيمة في مسرح علي الكسار فأبهرت الجميع برشاقتها وفنها الإكروباتي ، وهذا ما جعل بديعة مصابني تستعين بها وبشقيقاتها ، للعمل في فرقتها هي ، مقابل خمسة عشر جنيها ً، وكان من ضمن فرقة بديعة ، فتاة تسمى تيشي ، تلقي مونولوجات على حركات رقص الكلاكيت ، وكانت بديعة تشكر فيها دائماً وتشيد بأدائها وموهبتها ، وكانت نعيمة تغير من ذلك الأمر، فقررت نعيمة أن تتعلم هذه الرقصة ، رقصة الكلاكيت وإلقاء المونولوجات عليها.
ذهبت نعيمة لمدرب رقص وطلبت منه أن يعلمها ، لكنه طلب منها أجراً كبيراً ، عن كل حصة ، ولم تكن مواردها تسمح لها بذلك الأجر، فقرت أن تعلم نفسها بنفسها ، وفي أحد الأيام غابت تيشي ، فإنتهزت نعيمة الفرصة ودخلت غرفتها وسرقت الحذاء الذي ترقص به الرقصة ، ودهشت من قطع الحديد الموجودة بهذا الحذاء ، ووضعته في قدميها ، وبدأت في تقليد الرقصة ، وبعد ساعتين من التدريب ، تعلمتها،وأخذت الحذاء معها ، وذهبت إلى عامل أحذية ، وطلبت منه أن يضع في حذائها قطع حديد متشابهه معها ، وفي اليوم التالي أعادت الحذاء إلى مكانه ، وإستمرت تتدرب بحذائها ، وبعد أسبوع ذهبت لبديعة مصابني،وطلبت منها أن تتيح لها الفرصة، لتقديم رقصة الكلاكيت ، وبعد تردد سمحت لها بديعة وهي غير مقتنعة بها ، لكن نعيمة عاكف أبدعت بشدة مع أول فرصة لها في رقصة الكلاكيت ، لدرجة أن بديعة نفسها صفقت لها بحرارة بعدما إنتهت من الرقص ، وأثبتت لنفسها أنها قادرة على التحدي كما فعلت مع رقصة الكلاكيت.
نعيمة عاكف حصلت على جائزة أحسن راقصة في العالم ، من مهرجان ، الشباب العالمي بموسكو ، عام 1958م ، ضمن خمسين دولة شاركت في هذا المهرجان ، وقد قدمت ثلاثة لوحات إستعراضية ، كانت الاولى تحملا إسم مذبحة القلعة ، والثانية ، رقصة أندلسية ، والثالثة ، حياة الفجر ، كما سافرت الصين ، مع البعثة المصرية لتقديم الأوبريت ، الذي كتبه يحيى حقي ، وكان بعنوان يا ليل يا عين ، في شهر سبتمبر من عام 1956م.
ونظراً لأن نعيمة لم تتعلم ، فبعدما إمتلكت الفيلا والسيارة والمال ، بدأت تفكر فيما ينقصها ، فوجدته العلم والشهادة ، فبدأت تتعلم اللغات ، الثلاثة ، الإنجليزية ، والفرنسية ، والعربية ، وشعرت بقيمتها التي حرمت منها بسبب عدم تعلمها وهي صغيرة بالسيرك.
وقد توفت نعمية في 23 إبريل من عام 1966م ، نتيجة إصابتها بسرطان الأمعاء ، وكانت قد ولدت في 7 أكتوبر من عام 1929م ، بطنطا ، أي أن رحلتها في الحياة ، ستة وثلاثون عاماً فقط ، صنعت فيهم مجدها ، الذي يعيش حتى الأن بيننا.