الفكر الجغرافي في حضارة مصر القديمة

الفكر الجغرافي في حضارة مصر القديمة

ظهرت هذه الحضارة الأصلية المهمة في وادي النيل ولاسيما في القسم
الأسفل منه خلال الإلف الرابع ق.م واستمرت حتى القرن الخامس الميلادي .
وبذلك يكون عمرها أطول عمر عاشته حضارة قديمة .
وتمتاز الحضارة المصرية
بأنها نشأت من الأطوار البدائية ولم تشتق من حضارة سابقة لها . وبذلك فهي
توازي الحضارة السومرية في وادي الرافدين . من حيث طبيعة النشأة والأسس
التي قامت عليها الحضارة . فالمحفزات الطبيعية في كل من القطرين متشابهة من
حيث التأثير والنتائج . إلا أنها تختلف عن الحضارة السومرية التي اشتقت
منها عدة حضارات فرعية بعد موتها وقد ماتت قبل الحضارة المصرية بما لا يقل
عن إلفي عام . ولا يعرف لها حضارات تنتسب إليها بصلة البنوة . وإنما استمرت
في الحياة عمراً طويلاً يكاد يكون شاذاً بالنسبة إلى الحضارات الأخرى .
والحضارة
المصرية بمركزها العام تمثل صرحاً هائلاً لا يقل مكانة ومتانة عن صرح
الحضارة العراقية ( كما أن آثارها تعتبر مالية ولما كان الدين في مصر
القديمة منظماً تنظيماً سامياً فإن موقف المصريين القدماء ومكانتهم في
الحياة كانت كذلك مرتبطة ومنظمة . ويتضح مظهر ذلك في صورتين هما تشييد
الأهرام الذي تطلب بالضرورة مقاييس غاية في الدقة . ثم نظام الري الذي تطلب
فناً ومهارة وفضلاً عن ذلك كله كانت للمصريين القدماء لغة مكتوبة ومتطورة
بدرجة كبيرة ) .
( وهكذا نشأن في مصر عوامل خلق كيانها وتكوين شخصيتها
منذ القدم . فنظام النهر وتنظيم المجتمع والتجانس البشري والقاعدة الأرضية
الهائلة بمقياس ذلك العصر. مع قوة إنتاج واكتفاء ذاتي . فضلاً عن قيام
الصحراء من حولها بالحماية لهذا النظام ) . إما تطور الحضارة المصرية فقد
ظهر منذ ما قبل الأسرات وهذه الفترة تقابل عصر فجر السلالات في العراق منذ
ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد .
فبعد أن تعلم المصريون الزراعة وتقدموا
في هذا الفن وتركوا مناطق الواحات إلى شواطئ النيل بدأ الجفاف يحل في ربوع
الشرق الأدنى منذ نهاية العصور الحجرية القديمة . حيث كانت الجماعات
البشرية تتجه في استيطانها بالتدريج من مناطق الواحات ومن المناطق التي
يعتمد إرواؤها على المطر إلى قرب وديان الأنهار العظيمة .
وكان الإنسان
في هذه المرحلة مزوداً ببعض الخيرات التي اهتدى إليها في العصور السابقة .
ولكن عندما استقر بالقرب من ضفاف النيل يبدأ يستغل الإمكانيات الطبيعية
المتوفرة له في بيئته الجديدة . فتحول إلى استخدام مياه الري وجفف بعض
المناطق التي كانت تغمرها مياه الفيضان وحدد مواسم الفيضان وضبط الإرواء
والسدود . ونتجت عن هذا التفاعل بين المصريين وبيئتهم الحضارة الراقية التي
ظهرت في وادي النيل .
هذه المقدمة التي تناولنا فيها إشارات واضحة عن
تطور الحضارة المصرية بكافة أسسها ومنها الأسس العلمية وفي مقدمتها الفكر
الجغرافي . بنيت على قواعد متعددة ومن أبرزها الجوانب الآتية :-
أ ـ خلق الأرض
اشرنا
في المقدمة العامة الجوانب المشتركة التي قامت عليها المعارف البشرية في
الحضارات القديمة . وأكدنا إن موضوع خلق الأرض والكون بصورة عامة من الأمور
التي شغلت الإنسان منذ إن وجد على سطح الأرض .
وفي هذا الجانب ركزت
الحضارة المصرية القديمة على فكرة خلق الأرض وشكلها . وتقوم الفكرة المصرية
القديمة لخلق الأرض على أساس أن الوجود جمعية بما فيه الأرض والسماء قد
نشأ من المحيط الأزلي الذي يعتبر بداية لكل خلق . وان اله الشمس الذي كانوا
يعرفونه باسم (( أمون رع )) Amonra ولد من زهرة (( لوتس )) كانت نامية على
سطح المحيط . باعتبار أن الماء هو أساس كل شئ واصل كل خلق . ثم ارتفع
بارزاً من المحيط وقام بخلق اله الهواء المسمى ((شو)) Shu ثم جعله يقوم
بفصل أخته (نون) السماء عن أخيها (كب) الأرض .
وإما تصورهم لشكل الأرض
فقد تصورا الأرض على شكل مستطيل يمتد باتجاه شمال جنوبي وتشبه قاع صندوق
طويل غير أن سطحها إما مستو أو مقعر . وعلى طول هذا المستطيل يجري نهر
النيل في حوض ضحل . أما بالنسبة للشمس . فقد كانت من بين الإلهة المصرية
المعظمة التي جعلوها أعظم الإلهة وقد خصصو العبادة (الإله الشمس ) أضخم معا
بدهم . والهرم يعده البعض رمزاً مقدساً للشمس وقد دعوا هذا الإله باسم
(رع) ورمزواً له كذلك بصورة مختصرة لصقر طائر في السماء .
وإما تفسيرهم
لحركة الشمس واختفائها ليلاً . فيقوم على أساس أن الشمس في حركتها تمر
مخترقة الجبال التي على حافة الأرض ثم تتحول الى قارب ليلي وتطفو منسابة
على طول نهر آخر من النيل في مقابل السماء او المجرى السماوي وحينئذ تبحث
عنها الشياطين لتوقفها وتحول دون حركتها ولكن دون جدوى وفي نفس الوقت يبتهج
بها الموتى ويهنئون بها الموتى ويهنئون أنفسهم لزيارتها إياهم .
ب ـ الأفق الجغرافي .
اتسع الأفق الجغرافي في الحضارة المصرية نتيجة لطبيعة الموقع
الذي تحتله مصر . فإشرافها على البحر المتوسط والبحر الأحمر واقترابها من
قارة آسيا وارتباطها بقارة افريقية كونها تمثل الزاوية الشمالية الشرقية
للقارة كان لكل ذلك أثره في اتساع الأفق الجغرافي .

لقد جمعت بين الإشراف على البحار واتساع حدودها على اليابس الأمر الذي هيأ
لها فرصة الاتصال بالعالم الخارجي . كما أن الوضع السياسي ونضوج فكرة
الدولة منذ عصور قديمة وتعرضها للغزوات الخارجية وغزوها الدول المجاورة . .
زاد من دائرة الأفق الجغرافي . فعندما غزا الهكسوس مصر عام 1788 ق.م
وحكموا البلاد مدة قرنين أي حتى عام 1580 ق.م وتم أخراجهم من قبل أخر أمراء
السلالة السابعة عشر . وقيام السلالة الثامنة عشر وتأسيس الإمبراطورية
المصرية التي طاردت الهكسوس الى بلاد الشام وضمتها أليها .
لقد
سادت أوضاع جديدة في الشرق الأدنى . انمحت فيها جميع الحواجز في العالم
القديم واتصلت الشعوب ببعضها ودخلت في علاقات مباشرة وتكونت بين الدول صلات
دبلوماسية هي الأولى من نوعها دخلت الحضارة في طور عالمي وتميز هذا الطور
بأتساع العلاقات ونتج عن ذلك اتصال بين حضارات الشرق القديم وترتب على ذلك
انتشار اللغة البابلية التي أصبحت لغة المراسلات وبذلك تهيأت فرصة لأتساع
الأفق الجغرافي المصري حيث وجدت مراسلات بين ملوك الكشيين وملوك مصر .
وخاصة تلك الرسائل المتبادلة بين يورنا بورياش ملك الكشيين وفرعون مصر ((
أمنوفس )) الرابع (أي اخناتون )
ومن أهم الأعمال التي
قدمتها الحضارة المصرية وتتعلق بتوسيع الأفق الجغرافي عن طريق الكشوف
الجغرافية . هو ذلك المشروع الذي تبناه الملك ( نخاو ) في القرن السادس قبل
الميلاد ويهدف الى الطواف حول القارة الأفريقية . وقد أنجزت هذه الرحلة
بمساعدة الملاحين الفينيقيين حيث خرجت السفن المصرية من شمال البحر الأحمر
وعادت الى مصر عن طريق جبل طارق وقد استغرقت هذه الرحلة مدة ثلاث سنوات .
ومن الذين أيدوا هذه الرحلة وأشاروا إليها المؤرخ اليوناني هيرودوتس Hera
dotes وفي العصر الحديث حاول احد البحارة النرويجيين أثبات أن المصريين
القدماء هم الذين وصلوا الى العالم الجديد وهو صاحب مشروع ( رع ) .
أما
في مجال رسم الخرائط فان الدور الذي احتلته مصر في مجال الفكر الجغرافي
لايتناسب مع درها في مجال الخارطة فمع ان مصر القديمة تقدمت في مجال
المساحة التفصيلية وأستخدم الأساليب الهندسية لمعرفة مساحة الأراضي
الزراعية إلا ان دورها في رسم الخرائط لايتناسب مع تقدمها العلمي وفي هذه
المجالات . ومع ذلك فأن النصوص التاريخية وبعض النقوش على جدران المعابد
توضح ان المصريين القدماء رسموا خرائط لأرض مصر تظهر الأودية والجبال مثل
بردية تورينو المعروفة ببردية الذهب .
وقد اعتمدت الخرائط
المصرية على عمليات مساحية دقيقة وذلك من اجل حساب الضرائب التي تأخذها
الدولة من الفلاحين الذين يستأجرون الأرض لأن ملكية الأرض تعود للدولة .
وإذا أردنا مقارنة الخرائط التي وجدت في مصر فانها تقارن مع عدد
الخرائط الكثيرة التي وجدت في الحضارة العراقية القديمة ويعود سبب ذلك الى
المادة التي كانت ترسم عليها الخرائط المصرية والتي كانت ترسم على ورق
البردي في حين نقشت الخرائط العراقية على طين المفخور وحفظت في المعابد
الأمر الذي ساعد على بقائها فترة طويلة .
وأقدم خارطة وجدت في
مصر هي لوحة منجم الذهب التي يعود تاريخها الى سنة 1320 ق.م وتعتبر أقدم
خارطة مرسومة على ورق البردي توضح موقع أحد مناجم الذهب في منطقة النوبة
وقد ظهر فيها أهم معالم المنطقة من مبان وطرق وانهار وجبال . ومع ذلك فلم
يتوصلوا الى اختراع الخارطة بمعناها المعروف .
الفلك في الحضارة المصرية
توفرت
للحضارة المصرية مقومات ودوافع ساعدت على تقدم المعرفة الفلكية فسماء مصر
الصافية وانبساط الصحراء بجانب الوادي أمور تدعو الإنسان لمتابعة الظواهر
الطبيعية وفي مقدمتها حركة الشمس والقمر والكواكب السيارة والنجوم في
السماء .
أما بخصوص الدوافع فكانت الحياة الاقتصادية القائمة على
الزراعة والمرتبطة بنهر النيل وراء الاهتمام بمقومات المعرفة الفلكية .
فمنذ القدم ربط المصريون بين ارتفاع مناسيب نهر النيل وتعامد الشمس
وانتقالها الظاهري الى الشمال . أي أنها كانت تقترب بتعامدها من مراكز
الحضارة القريبة من مدار السرطان مركز تعامد الشمس صيفاً . فكان الربط بين
اقتراب الشمس وزيادة مياه النيل دافعا فلكيا يدعوهم لمتابعة الشمس ومعرفة
الوقت الذي ستعود فيه الى تعامدها .
وكان هذا التوافق بين الشمس والنيل
مدعاة لتقديس الشمس . فقدست الشمس وعبدت تحت اسم الإله (رع) وافتدى النيل
بعروسته السنوية التي كانت تزف إليه في كل موسم فيضان سنوي بعد ان يتم
اختيارها من أجمل نساء مصر .
وقد ترتب على معرفة موسم فيضان
النيل القيام بمحاولات لتحديد الوقت ومعرفة فصول السنة مستعينين بحركة
النجوم ومواعيد ظهورها وقادهم الأمور الى وضع التقويم المرتبط بالشمس منذ
وقت مبكر . فقاموا بتقسيم السنة الى اثني عشر شهراً وقسموا كل شهر الى
ثلاثة ( دياكين ) وأضافوا الى مجموع أيامهم خمسة أيام والتي تمثل الأعياد .
وكانت سنتهم تبدأ منذ ظهور النجم سوثيين ( الشعري اليمانية ) قبل شروق
الشمس حيث يرتبط ظهوره بالفيضان السنوي لنهر النيل .

ومن معارفهم
الفلكية أنهم قاموا بتقسيم منطقة واسعة على طول خط الاستواء ست وثلاثين
قسماً يشمل كل منها أسطح النجوم ومجموعاتها او أجزاء من هذه المجموعات مما
يتمكن رصد ظهوره كل عشرة أيام متعاقبة .
وتمتاز المعرفة
الفلكية في حضارة مصر باستمرارها وديمومتها فوق الأرض المصرية حتى في
الفترات التي فقدت فيها مصر سيادتها على أرضها ففي عهد البطالسة ومنذ بداية
القرن الثالث قبل الميلاد ولمدة خمسة قرون تلت ذلك . كان الدور الفلكي
للحضارة المصرية مستمراً . وتمثل في المدينة الإسكندرية حيث بدأت سلسة من
الأرصاد الفلكية في تلك المدينة ومنها :-
1. تعيين مواقع الإجرام السماوية الى درجة كبيرة من الدقة .
2. قياس أبعاد الشمس والقمر بطريقة جديدة من نوعها تعتمد على زاوية القمر مع الشمس عندما يكون في الربع الأول .
3. قياس طول محيط الأرض عن طريق رصد الشمس في مدينتي الإسكندرية و أسوان .
4. محاولة تفسير التغيير في أبعاد الشمس والقمر عن الأرض .
وبعد ذلك قلت الدراسات الفلكية في مصر واستمرت حتى القرن الثامن . حين قام
العرب بإعادة المركز للأبحاث الفلكية من جديد عندما برزت الدراسات الفلكية
العربية من جديد وبدأت مصر تمارس دورها الفلكي ضمن أطار الدولة العربية
الإسلامية .