وصفوها في بداية الأمر بانقلاب عسكري، حدث في الجماهيريَّة العربيَّة الليبيَّة، في 1 أيلول/سبتمبر عام 1969؛ ونعتوها لاحقًا بـ "ثورة الفاتح من سبتمبر"، التي أودت بحياة حُكم المملكة الليبيَّة، وأعلنت قيام "الجمهوريَّة العربيَّة الليبيَّة".
يحكي قائد الثورة، الرئيس الراحل، معمّر القذافي، في كتابِهِ "قِصَّة الثورة"، أنهُ من المستحيل تحديد يوم بعينِهِ لبدايةِ الثورةِ، كما هو الحال في أيَّة ثورة، لا يمكن تحديد بداية لها؛ عكس الانقلاب، الذي هو "خاطِرة طارئة، تطرأ على خاطر القادة الكبار".
استُهِلَّت الاجتماعات لوضع منهج يُغطى جميع عناصر، وأدوات الثورة على الحكم السنوسي في ليبيا، في مدينة سبها؛ حيث تكوَّنت أول لجنة قياديَّة في المدرسة الثانوية، حيث ازداد عدد المشاركين للقيام بالثورة تشعبًا داخل صفوف الشباب.
أول تَظاهُرة قادت إلى الثورة
تم تجهيز أول تظاهُرة وحدويَّة في سبها، 5 كانون الأول/أكتوبر من العام 1961، قادها القذافي، ومعهُ عدد من العناصر التي آمنت بفكرة الثورة. كانت أجواء التظاهرة عروبيَّة خالِصة، حيث طالبت بالوحدة العربية بعد انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر.
من هُنا انطلقت ثورة شعبيَّة عارِمة، لا تنادى بالوحدة والتحرير فقط، بل وتندِّد بالحُكم الرجعي، وتوقَّع الكثيرون أنها مجرَّد عمليَّة عفويَّة ، أو حركة عابِرة ؛ لكن الحقيقة أن تظاهُرة سبها كانت بداية الاصطدام بالسُلطات القمعيَّة آنها.
انتقل القذافي بعد هذه التظاهرة - التي تعرَّض خلالها للمساءلة من قبل السلطات القمعيَّة في ولاية فزان - إلى مدينة مصراته للدراسة بها، وليعمل على إنشاء المزيد من المجموعات الثوريَّة.
التحق بالقذافي بعد العام 1963، مجموعات كثيرة بالكليَّة العسكريَّة، كان من ضمنهم بعض أفراد الخليَّة الأولى؛ وواصلت هذه المجموعة عملها من داخل الكلية العسكرية.
في العام 1964، تقرَّر إعادة تنظيم الحركة الثورية؛ حيث قُسِّمت إلى حركة عسكريَّة وأخرى مدنيَّة؛ وأصبحت المجموعة العسكريَّة هي الأهم، وقامت المجموعة الأخيرة بتشكيل لجنة مركزيَّة تتكوَّن من العسكريّين فقط.
أما المجموعة المدنية؛ فقد شَكِّلَت لجنة شعبيَّة، تعمل بصفة مُستقلَّة بشكل كُلِّي من الناحية التنظيميَّة عن اللجنة المركزية للضباط الوحدويّين الأحرار.
تعرَّض العمل الشعبي من الناحية الشعبيَّة للعرقلة، نتيجة للاضطهاد الذي كان سائدًا في العهد الملكي؛ إلا أنهُ سرعان ما استطاع أن يخلق وسطًا له مناعة ضد الحزبيَّة والانقسام؛ فتمكَّن بذلك من أن يَحول بين الشباب والحركات الهدّامة الأخرى.
شاركت اللجنة المركزيَّة لتنظيم الضباط الوحدويّين الأحرار بكافة الأنشطة الثورية في سريَّة تامة؛ حيث كانت السرية ضرورة ملحة وكانت اللجنة المركزيَّة مسئولة عن كافة المسائل التنظيميَّة.
أولى اجتماعات مركزيَّة الثورة
عقدت اللجنة المركزيَّة أول اجتماع لها، بعد إعادة تنظيمها، في بلدة طلميثة التي تقع على ساحل البحر المتوسط، وتبعد عن مدينة بنغازي بـ 110 كيلوا متر تقريبًا من ناحية الشرق، وبعد ذلك توالت اجتماعات اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تتم بالسرِّية التامة، وكانت هذه الاجتماعات تعقد بصفة دوريَّة في اجتماعات مطولة مرهقة خارج المدن الرئيسية، كما كانت هذه الاجتماعات تتم أيام العطلات الرسمية والأعياد رغبة في عدم إثارة الانتباه إلى تغيب أعضاء اللجنة المركزيَّة في الأيام العادية.
كما فرضت اللجنة المركزيَّة على أعضائها قيوداً حادة، حيث فرضت على أعضائها الضباط الوحدويّين الأحرار شروطا مُلزِمة تجاه الالتزام الأخلاقي والديني، إضافة إلى انه ضمن خطط اللجنة المركزيَّة انتساب أعضائها إلى الجامعة ليتخصَّص كل منهم في علم معين، حيث شهدت كليات الجامعة الليبية في ذلك الوقت إقبالاً غير معهود لانتساب العسكريّين إليها. كما أنه في الاجتماع الثاني الذي عقدته اللجنة المركزيَّة بمنطقة سيدي خليفة ، التي تقع على بعد 20 كيلو مترا إلى الشرق من مدينة بنغازي، تقرَّر إنشاء صندوق توفير للصرف على نشاط الحركة وانتقالات أعضاء اللجنة المركزية، وقد تم الاتفاق على أن يؤجَّل إقرار هذا الأمر إلى اجتماع آخر.
وعقب الاجتماع الثاني قام أعضاء اللجنة بجس نبض التشكيلات فوجدوا استعدادها للبذل دون حساب، تقرر في اجتماع آخر عقد بنفس المكان أن تكون رواتب جميع الضباط الوحدويين الأحرار، وفى مقدمتها رواتب أعضاء اللجنة المركزية رصيدًا للحركة، تؤخذ في أي وقت وبدون تحديد للمقدار، وذلك للإنفاق منها على تذاكر سفر الضباط وعائلات أعضاء التنظيم في النواحي المختلفة .
في الاجتماع الثالث الذي عقد بأحد الفنادق الصغيرة في مدينة بنغازي، تقرَّر أن يقدم كل عضو من أعضاء اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار تقريرًا شهريًا، عن الضباط غير المنضمين للحركة خاصة من ذوى الرتب الكبيرة، وذلك لمعرفة استعدادهم للانضمام للحركة، حتى لا يشعروا بالظلم عند الحكم عليهم بالتقاعس أو الخيانة بعد قيام الثورة، ولقد كان معظم الضباط من ذوى الرتب الكبيرة متردِّدين ويملأهم اليأس.
أما قوات الأمن فقد كانت هناك تشكيلات منها داخل الحركة، فكانوا مغلوبين على أمرهم.
توالت بعد ذلك اجتماعات اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تنعقد في أماكن متفرقة من أنحاء ليبيا، وكلما سمحت الظروف في أوقات الأعياد والعطلات .
أول منشور للثورة
صدر المنشور السري الأول للثورة، في يناير من العام 1969، وقد كتبه القذافي في معسكر قار يونس بمدينة بنغازي، لمعرفة ما إذا كان الضباط الوحدويّون الأحرار يستطيعون السيطرة على جميع وحدات القوات المسلَّحة والقيام بعملية مسح للقوات والأفراد والذخيرة الواجب توافرها لتفجير الثورة.
عقد الاتفاق على أن يكون يوم 24 آذار/مارس في العام 1969، موعدًا لتفجير الثورة، لكن قرار سفر الملك المفاجى إلى مقر إقامته في طبرق دفع الضباط الوحدويّين الأحرار إلى تغيير خطَّطهم، على الرغم من أن بعض الوحدات بدأت تستعد للتحرُّك .
تم تأجيل الموعد إلى أجل غير مُسمّى ؛ تقرَّر بعدها القبض على قائد الثورة من قِبل سلطات العهد الفائت، لكن مشيئة الله حالت دون تنفيذه. وفى 13 أغسطس عام 1969 قرَّرت قيادة الجيش عقد اجتماع عسكري تحضره كل القيادات الكبيرة، ومعظم ضباط وحدات الجيش في منطقة بنغازي، ليشرح مدير التدريب آنذاك لهؤلاء الضباط الوحدويّين الأحرار أهمية نظام الدفاع الجوى الذي صمَّمه الانجليز، ووافق عملائهم في ليبيا على شرائه.
كان هذا الاجتماع في مسرح الكليَّة العسكريَّة في بنغازي، وعقدت اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين الأحرار اجتماعًا قرَّرت فيه تفجير الثورة يوم 13 أغسطس، بأن يتم اعتقال كافة الضباط ذوى الرتب الكبيرة. ونظرًا لأن بعض أعضاء التنظيم، وخاصة مجموعة طرابلس لم يتمكَّنوا في هذا الوقت القصير من تبين صورة الوضع الذي هم فيه من حيث السيطرة وعدمها على وحدات طرابلس؛ لذا تقرَّر تأجيل الحركة إلى موعد آخر في الساعات الأخيرة، وقد حدَّدت اللجنة المركزيَّة موعد آخر لتفجير الثورة، هو الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969م، الموافق 19 جمادى الآخرة 1398هـ ، لأن قيادة الجيش كانت على وشك إرسال دفعات أخرى من الضباط من بينهم ضباط وحدويّين أحرار للتدريب في الخارج.
وضعت الخطة على أساس الاستيلاء على الإذاعة، وعلى معسكرات الجيش، والقوة المتحرِّكة، ومحاصرة القواعد الأجنبية الجاثمة فوق الأرض الليبية، والقبض على كبار المسئولين السابقين من العهد البائد، والسيطرة على بقية المدن المهمة .
"القدس" مفتاح الثورة وعقيدتها
كانت كلمة السر لتفجير الثورة هي "القدس"؛ ما له بالغ الدلالة على اعتبار قائد الثورة، وكل الضباط الوحدويّين الأحرار القضية الفلسطينية هي محض تركيزهم واهتمامهم وولائهم.
في اليوم الأول من أيلول/سبتمبر عام 1969 تم السيطرة التامة على كافة شؤون البلاد، وانتصرت الثورة، ذاع قائد الثورة، الرئيس الراحل معمر القذافي البيان الأول للثورة.
أكملت ثورة الفاتح خطواتها، وانتصاراتها، بطرد بقايا الإيطاليين، واسترداد ثروة الشعب العربي الليبي، ما تحقَّق يوم 7 كانون الأول/أكتوبر 1970.
ومما جنتهُ الثورة أيضًا أنها قد طرحت تصفية الألغام المزروعة في أرجاء الأرض الليبية، والتي كانت تعوق طموحات التنمية لعدم وجود الخرائط بالمواقع لإزالتها، وقد أكدت على هذا الحق قرارات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة وقرارات القمم ووزراء الخارجية للمؤتمرات الإفريقية والآسيوية والعربية، وبذلك أرست ثورة الفاتح الليبية قاعدة جديدة في العلاقات الدولية وهي أن المستعمر عليه أن يدفع ثمن عدوانه مهما طال الزمن، وان ضحايا جرائمه لا تسقط بالتقادم.
والمُلفِت أن هذه الثورة العظيمة قد ركزت في بدايتها على استرداد ثروة الشعب الليبي، وتوظيفها في مشروعات التنمية تعويضاً لهذا الشعب البطل والمكافح عن حرمان عهود بائدة فرضت عليه، فكانت المواجهة قد انطلقت عملياً بتأميم الشركات النفطية الاحتكارية مثل شركات شل والواحة بنكر هانت وموبيل اويل وغيرها من شركات أمريكية وبريطانية، وكان قد رفض المفاوض الليبي حينها قبول زيادة في الأسعار، بل أصرَّ على الحل الجذري وهو التأميم، ثم النجاح في إدارة تلك الشركات بسواعد وكفاءات وطنية.
حيث أن قضية التنمية قد شغلت ثوار ليبيا، فكانت خطط التنمية التي بدأتها قيادة الثورة بزعامة القائد والمعلم السياسي والجماهيري الكبير العقيد معمر القذافي بما أسمته توفير المسكن اللائق للمواطن الليبي والاحتفال بتحطيم آخر كوخ ومساكن العشوائيات، فكان المنزل العصري مع تمليكه تطبيقاً للمقولة الشهيرة "البيت لساكنه"، وشملت خطة التنمية التوسع في التعليم المجاني في كل مراحله وكذا مظلة التأمين والضمان الاجتماعي وغيرها من المجالات الخدمية والتنموية التي شهدتها ليبيا في عهد الثورة وانتقلت من خلالها إلى نهضة عصرية شاملة.
دعم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الثورة الليبية، بعد اطلاعه على اتجاهها الوحدوي، ثم دعمتها سورية، والعراق، والسودان، والجزائر.
كان ملك ليبية إدريس السنوسي خارج ليبية عند قيام الثورة، ولذا تم كل شيء بهدوء وبلا صعوبات أو مقاومة حقيقية، ونادت الثورة بمقاومة الفساد والتمسك بالقيم والمبادئ والوحدة، ولقيت تأييداً كما لقيت معارضة.
جرى تنظيم العمل وقيام المؤسسات ، خلال شهر بعد قيام الثورة، وتشكَّلت حكومة ومجلس ثورة ومجلس وزراء ومخابرات عامة، واستبدل فيما بعد أسماء الوزارات بأسماء أمانات شعبية عامة كون الذين يديرون البلد ليسوا حكومة (تقليدية)، واتخذت الثورة مدينة بنغازي، التي لُقبت بمدينة "البيان الأول"، مقراً لها، وتمَّ إعلان الدستور.
راقبَ جمال عبد الناصر ورجاله تطوُّر الوضع في ليبيا باهتمام، حفاظاً عليها، وقبل القذافي اقتراح جمال عبد الناصر، بخصوص إقامة الملك السابق إدريس السنوسي في القاهرة، حتى لا يصبح عرضة للتأثير الأمريكي في أثينا؛ وركَّز مجلس قيادة الثورة كلَّ السلطات بيده، ووزَّعت داخلهُ الاختصاصات، بمساعدة على الخبرة المصرية.
حاول بعض قادة الجيش في ذات عام الثورة القيام بانقلابات عسكرية عليها، في تشرين الثاني 1969 ، وحزيران 1970، وكذلك في أيار 1970، ولكنها أخفقت وقُبض على منظميها؛ كما تعرضت الثورة فيما بعد أيضاً لمحاولات انقلابية فاشلة.
فِكر الثورة وأسلوب الحُكم
أعلن قيام سلطة الشعب ما بين 13-14 تشرين الثاني 1976، وتتمثَّل في:
1- يكون الاسم الرسمي لليبية «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية»، ثمَّ أُضيف إليها «العظمى».
2- القرآن الكريم شريعة المجتمع.
3- السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي، فالسلطة للشعب يمارسها عن طريق المؤتمرات الشعبية وصولاً إلى المؤتمر الشعبي العام.
4- الدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن، وعلى المواطنين ممارسة التدريب العسكري وإعداد الأطر اللازمة لذلك.
الاتفاقات الوحدويَّة والبُعد القومي
ركَّزت قيادة الثورة الليبية، خاصةً القذافي، على الوحدة العربية، ولم تترك فرصةً أو مناسبةً إلا وعقدت اتفاق وحدة مع دولة عربية، وأهمُّ هذه الاتفاقيات: ميثاق طرابلس بين ليبيا ومصر والسودان في 6/6/1970 لإقامة اتحاد بين الدول الثلاثة، ثمَّ الاتفاق على قيام اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث ما بين ليبيا ومصر وسورية في 17 نيسان 1971، الذي بقي قائماً بين الأقطار الثلاثة حتى زيارة السادات للقدس وسيره في طريق الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني. ووقَّع القذافي "اتفاق وجدة" مع تونس لقيام اتحاد بين الدولتين في 12/1/1974، لكنه تعثَّر ولم يستمر أيضاً، كما قام اتحاد دول المغرب العربي بين ليبية وتونس والجزائر والمغرب وموريتانية في 17/12/1989، وهو مُعطَّل منذ مدة طويلة، بسبب الخلافات السياسية والحدودية. ومع أن القذافي قد أعلن أنَّه لا ييأس من تحقيق الوحدة العربية، فقد حول جهوده نحو الوحدة الإفريقية، وكان له دور مهم في توقيع ميثاق الاتحاد الإفريقي عام 2002.
أما البعد القومي الوحدوي فقد ظل و لا يزال يشكل بعداً مهماً في توجهات ثورة الفاتح من سبتمبر، وزعيمها القومي العربي الكبير معمر القذافي وسعيه ونضاله الدؤوب في سبيل تحقيق الوحدة العربية الشاملة بين جماهير الأمة، التي تجمعهم عمق الروابط الاجتماعية والتاريخية، بما يكفل تحطيم البوابات الإقليمية والقطرية المصطنعة، والحواجز الوهمية، وإزالة الحدود التي كرسها الاستعمار بين أبناء الأمة العربية الواحدة. ولقد قدمت ليبيا نموذجاً للروح الوحدوية، بأن جعلت من أراضيها أرضًا لكل العرب، وأرست مبدأ المساواة بين المواطن الليبي والعربي، في كل الحقوق والواجبات.
كما كانت مواقف ليبيا بزعامة القائد معمر القذافي، تجاه القضايا العربية ومنها قضية فلسطين والقضايا الأخرى، وكذا تجاه القضايا الإسلامية والإقليمية والدولية، مواقف راقية وشجاعة للغاية ، بما يضع ليبيا في الريادة خدمة لقضايا الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وخدمة لمصالح الأمة العربية والإنسانية.
يحكي قائد الثورة، الرئيس الراحل، معمّر القذافي، في كتابِهِ "قِصَّة الثورة"، أنهُ من المستحيل تحديد يوم بعينِهِ لبدايةِ الثورةِ، كما هو الحال في أيَّة ثورة، لا يمكن تحديد بداية لها؛ عكس الانقلاب، الذي هو "خاطِرة طارئة، تطرأ على خاطر القادة الكبار".
استُهِلَّت الاجتماعات لوضع منهج يُغطى جميع عناصر، وأدوات الثورة على الحكم السنوسي في ليبيا، في مدينة سبها؛ حيث تكوَّنت أول لجنة قياديَّة في المدرسة الثانوية، حيث ازداد عدد المشاركين للقيام بالثورة تشعبًا داخل صفوف الشباب.
أول تَظاهُرة قادت إلى الثورة
تم تجهيز أول تظاهُرة وحدويَّة في سبها، 5 كانون الأول/أكتوبر من العام 1961، قادها القذافي، ومعهُ عدد من العناصر التي آمنت بفكرة الثورة. كانت أجواء التظاهرة عروبيَّة خالِصة، حيث طالبت بالوحدة العربية بعد انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر.
من هُنا انطلقت ثورة شعبيَّة عارِمة، لا تنادى بالوحدة والتحرير فقط، بل وتندِّد بالحُكم الرجعي، وتوقَّع الكثيرون أنها مجرَّد عمليَّة عفويَّة ، أو حركة عابِرة ؛ لكن الحقيقة أن تظاهُرة سبها كانت بداية الاصطدام بالسُلطات القمعيَّة آنها.
انتقل القذافي بعد هذه التظاهرة - التي تعرَّض خلالها للمساءلة من قبل السلطات القمعيَّة في ولاية فزان - إلى مدينة مصراته للدراسة بها، وليعمل على إنشاء المزيد من المجموعات الثوريَّة.
التحق بالقذافي بعد العام 1963، مجموعات كثيرة بالكليَّة العسكريَّة، كان من ضمنهم بعض أفراد الخليَّة الأولى؛ وواصلت هذه المجموعة عملها من داخل الكلية العسكرية.
في العام 1964، تقرَّر إعادة تنظيم الحركة الثورية؛ حيث قُسِّمت إلى حركة عسكريَّة وأخرى مدنيَّة؛ وأصبحت المجموعة العسكريَّة هي الأهم، وقامت المجموعة الأخيرة بتشكيل لجنة مركزيَّة تتكوَّن من العسكريّين فقط.
أما المجموعة المدنية؛ فقد شَكِّلَت لجنة شعبيَّة، تعمل بصفة مُستقلَّة بشكل كُلِّي من الناحية التنظيميَّة عن اللجنة المركزية للضباط الوحدويّين الأحرار.
تعرَّض العمل الشعبي من الناحية الشعبيَّة للعرقلة، نتيجة للاضطهاد الذي كان سائدًا في العهد الملكي؛ إلا أنهُ سرعان ما استطاع أن يخلق وسطًا له مناعة ضد الحزبيَّة والانقسام؛ فتمكَّن بذلك من أن يَحول بين الشباب والحركات الهدّامة الأخرى.
شاركت اللجنة المركزيَّة لتنظيم الضباط الوحدويّين الأحرار بكافة الأنشطة الثورية في سريَّة تامة؛ حيث كانت السرية ضرورة ملحة وكانت اللجنة المركزيَّة مسئولة عن كافة المسائل التنظيميَّة.
أولى اجتماعات مركزيَّة الثورة
عقدت اللجنة المركزيَّة أول اجتماع لها، بعد إعادة تنظيمها، في بلدة طلميثة التي تقع على ساحل البحر المتوسط، وتبعد عن مدينة بنغازي بـ 110 كيلوا متر تقريبًا من ناحية الشرق، وبعد ذلك توالت اجتماعات اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تتم بالسرِّية التامة، وكانت هذه الاجتماعات تعقد بصفة دوريَّة في اجتماعات مطولة مرهقة خارج المدن الرئيسية، كما كانت هذه الاجتماعات تتم أيام العطلات الرسمية والأعياد رغبة في عدم إثارة الانتباه إلى تغيب أعضاء اللجنة المركزيَّة في الأيام العادية.
كما فرضت اللجنة المركزيَّة على أعضائها قيوداً حادة، حيث فرضت على أعضائها الضباط الوحدويّين الأحرار شروطا مُلزِمة تجاه الالتزام الأخلاقي والديني، إضافة إلى انه ضمن خطط اللجنة المركزيَّة انتساب أعضائها إلى الجامعة ليتخصَّص كل منهم في علم معين، حيث شهدت كليات الجامعة الليبية في ذلك الوقت إقبالاً غير معهود لانتساب العسكريّين إليها. كما أنه في الاجتماع الثاني الذي عقدته اللجنة المركزيَّة بمنطقة سيدي خليفة ، التي تقع على بعد 20 كيلو مترا إلى الشرق من مدينة بنغازي، تقرَّر إنشاء صندوق توفير للصرف على نشاط الحركة وانتقالات أعضاء اللجنة المركزية، وقد تم الاتفاق على أن يؤجَّل إقرار هذا الأمر إلى اجتماع آخر.
وعقب الاجتماع الثاني قام أعضاء اللجنة بجس نبض التشكيلات فوجدوا استعدادها للبذل دون حساب، تقرر في اجتماع آخر عقد بنفس المكان أن تكون رواتب جميع الضباط الوحدويين الأحرار، وفى مقدمتها رواتب أعضاء اللجنة المركزية رصيدًا للحركة، تؤخذ في أي وقت وبدون تحديد للمقدار، وذلك للإنفاق منها على تذاكر سفر الضباط وعائلات أعضاء التنظيم في النواحي المختلفة .
في الاجتماع الثالث الذي عقد بأحد الفنادق الصغيرة في مدينة بنغازي، تقرَّر أن يقدم كل عضو من أعضاء اللجنة المركزيَّة للضباط الوحدويّين الأحرار تقريرًا شهريًا، عن الضباط غير المنضمين للحركة خاصة من ذوى الرتب الكبيرة، وذلك لمعرفة استعدادهم للانضمام للحركة، حتى لا يشعروا بالظلم عند الحكم عليهم بالتقاعس أو الخيانة بعد قيام الثورة، ولقد كان معظم الضباط من ذوى الرتب الكبيرة متردِّدين ويملأهم اليأس.
أما قوات الأمن فقد كانت هناك تشكيلات منها داخل الحركة، فكانوا مغلوبين على أمرهم.
توالت بعد ذلك اجتماعات اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين الأحرار، التي كانت تنعقد في أماكن متفرقة من أنحاء ليبيا، وكلما سمحت الظروف في أوقات الأعياد والعطلات .
أول منشور للثورة
صدر المنشور السري الأول للثورة، في يناير من العام 1969، وقد كتبه القذافي في معسكر قار يونس بمدينة بنغازي، لمعرفة ما إذا كان الضباط الوحدويّون الأحرار يستطيعون السيطرة على جميع وحدات القوات المسلَّحة والقيام بعملية مسح للقوات والأفراد والذخيرة الواجب توافرها لتفجير الثورة.
عقد الاتفاق على أن يكون يوم 24 آذار/مارس في العام 1969، موعدًا لتفجير الثورة، لكن قرار سفر الملك المفاجى إلى مقر إقامته في طبرق دفع الضباط الوحدويّين الأحرار إلى تغيير خطَّطهم، على الرغم من أن بعض الوحدات بدأت تستعد للتحرُّك .
تم تأجيل الموعد إلى أجل غير مُسمّى ؛ تقرَّر بعدها القبض على قائد الثورة من قِبل سلطات العهد الفائت، لكن مشيئة الله حالت دون تنفيذه. وفى 13 أغسطس عام 1969 قرَّرت قيادة الجيش عقد اجتماع عسكري تحضره كل القيادات الكبيرة، ومعظم ضباط وحدات الجيش في منطقة بنغازي، ليشرح مدير التدريب آنذاك لهؤلاء الضباط الوحدويّين الأحرار أهمية نظام الدفاع الجوى الذي صمَّمه الانجليز، ووافق عملائهم في ليبيا على شرائه.
كان هذا الاجتماع في مسرح الكليَّة العسكريَّة في بنغازي، وعقدت اللجنة المركزيَّة لحركة الضباط الوحدويّين الأحرار اجتماعًا قرَّرت فيه تفجير الثورة يوم 13 أغسطس، بأن يتم اعتقال كافة الضباط ذوى الرتب الكبيرة. ونظرًا لأن بعض أعضاء التنظيم، وخاصة مجموعة طرابلس لم يتمكَّنوا في هذا الوقت القصير من تبين صورة الوضع الذي هم فيه من حيث السيطرة وعدمها على وحدات طرابلس؛ لذا تقرَّر تأجيل الحركة إلى موعد آخر في الساعات الأخيرة، وقد حدَّدت اللجنة المركزيَّة موعد آخر لتفجير الثورة، هو الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969م، الموافق 19 جمادى الآخرة 1398هـ ، لأن قيادة الجيش كانت على وشك إرسال دفعات أخرى من الضباط من بينهم ضباط وحدويّين أحرار للتدريب في الخارج.
وضعت الخطة على أساس الاستيلاء على الإذاعة، وعلى معسكرات الجيش، والقوة المتحرِّكة، ومحاصرة القواعد الأجنبية الجاثمة فوق الأرض الليبية، والقبض على كبار المسئولين السابقين من العهد البائد، والسيطرة على بقية المدن المهمة .
"القدس" مفتاح الثورة وعقيدتها
كانت كلمة السر لتفجير الثورة هي "القدس"؛ ما له بالغ الدلالة على اعتبار قائد الثورة، وكل الضباط الوحدويّين الأحرار القضية الفلسطينية هي محض تركيزهم واهتمامهم وولائهم.
في اليوم الأول من أيلول/سبتمبر عام 1969 تم السيطرة التامة على كافة شؤون البلاد، وانتصرت الثورة، ذاع قائد الثورة، الرئيس الراحل معمر القذافي البيان الأول للثورة.
أكملت ثورة الفاتح خطواتها، وانتصاراتها، بطرد بقايا الإيطاليين، واسترداد ثروة الشعب العربي الليبي، ما تحقَّق يوم 7 كانون الأول/أكتوبر 1970.
ومما جنتهُ الثورة أيضًا أنها قد طرحت تصفية الألغام المزروعة في أرجاء الأرض الليبية، والتي كانت تعوق طموحات التنمية لعدم وجود الخرائط بالمواقع لإزالتها، وقد أكدت على هذا الحق قرارات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة وقرارات القمم ووزراء الخارجية للمؤتمرات الإفريقية والآسيوية والعربية، وبذلك أرست ثورة الفاتح الليبية قاعدة جديدة في العلاقات الدولية وهي أن المستعمر عليه أن يدفع ثمن عدوانه مهما طال الزمن، وان ضحايا جرائمه لا تسقط بالتقادم.
والمُلفِت أن هذه الثورة العظيمة قد ركزت في بدايتها على استرداد ثروة الشعب الليبي، وتوظيفها في مشروعات التنمية تعويضاً لهذا الشعب البطل والمكافح عن حرمان عهود بائدة فرضت عليه، فكانت المواجهة قد انطلقت عملياً بتأميم الشركات النفطية الاحتكارية مثل شركات شل والواحة بنكر هانت وموبيل اويل وغيرها من شركات أمريكية وبريطانية، وكان قد رفض المفاوض الليبي حينها قبول زيادة في الأسعار، بل أصرَّ على الحل الجذري وهو التأميم، ثم النجاح في إدارة تلك الشركات بسواعد وكفاءات وطنية.
حيث أن قضية التنمية قد شغلت ثوار ليبيا، فكانت خطط التنمية التي بدأتها قيادة الثورة بزعامة القائد والمعلم السياسي والجماهيري الكبير العقيد معمر القذافي بما أسمته توفير المسكن اللائق للمواطن الليبي والاحتفال بتحطيم آخر كوخ ومساكن العشوائيات، فكان المنزل العصري مع تمليكه تطبيقاً للمقولة الشهيرة "البيت لساكنه"، وشملت خطة التنمية التوسع في التعليم المجاني في كل مراحله وكذا مظلة التأمين والضمان الاجتماعي وغيرها من المجالات الخدمية والتنموية التي شهدتها ليبيا في عهد الثورة وانتقلت من خلالها إلى نهضة عصرية شاملة.
دعم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الثورة الليبية، بعد اطلاعه على اتجاهها الوحدوي، ثم دعمتها سورية، والعراق، والسودان، والجزائر.
كان ملك ليبية إدريس السنوسي خارج ليبية عند قيام الثورة، ولذا تم كل شيء بهدوء وبلا صعوبات أو مقاومة حقيقية، ونادت الثورة بمقاومة الفساد والتمسك بالقيم والمبادئ والوحدة، ولقيت تأييداً كما لقيت معارضة.
جرى تنظيم العمل وقيام المؤسسات ، خلال شهر بعد قيام الثورة، وتشكَّلت حكومة ومجلس ثورة ومجلس وزراء ومخابرات عامة، واستبدل فيما بعد أسماء الوزارات بأسماء أمانات شعبية عامة كون الذين يديرون البلد ليسوا حكومة (تقليدية)، واتخذت الثورة مدينة بنغازي، التي لُقبت بمدينة "البيان الأول"، مقراً لها، وتمَّ إعلان الدستور.
راقبَ جمال عبد الناصر ورجاله تطوُّر الوضع في ليبيا باهتمام، حفاظاً عليها، وقبل القذافي اقتراح جمال عبد الناصر، بخصوص إقامة الملك السابق إدريس السنوسي في القاهرة، حتى لا يصبح عرضة للتأثير الأمريكي في أثينا؛ وركَّز مجلس قيادة الثورة كلَّ السلطات بيده، ووزَّعت داخلهُ الاختصاصات، بمساعدة على الخبرة المصرية.
حاول بعض قادة الجيش في ذات عام الثورة القيام بانقلابات عسكرية عليها، في تشرين الثاني 1969 ، وحزيران 1970، وكذلك في أيار 1970، ولكنها أخفقت وقُبض على منظميها؛ كما تعرضت الثورة فيما بعد أيضاً لمحاولات انقلابية فاشلة.
فِكر الثورة وأسلوب الحُكم
أعلن قيام سلطة الشعب ما بين 13-14 تشرين الثاني 1976، وتتمثَّل في:
1- يكون الاسم الرسمي لليبية «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية»، ثمَّ أُضيف إليها «العظمى».
2- القرآن الكريم شريعة المجتمع.
3- السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي، فالسلطة للشعب يمارسها عن طريق المؤتمرات الشعبية وصولاً إلى المؤتمر الشعبي العام.
4- الدفاع عن الوطن مسؤولية كل مواطن، وعلى المواطنين ممارسة التدريب العسكري وإعداد الأطر اللازمة لذلك.
الاتفاقات الوحدويَّة والبُعد القومي
ركَّزت قيادة الثورة الليبية، خاصةً القذافي، على الوحدة العربية، ولم تترك فرصةً أو مناسبةً إلا وعقدت اتفاق وحدة مع دولة عربية، وأهمُّ هذه الاتفاقيات: ميثاق طرابلس بين ليبيا ومصر والسودان في 6/6/1970 لإقامة اتحاد بين الدول الثلاثة، ثمَّ الاتفاق على قيام اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث ما بين ليبيا ومصر وسورية في 17 نيسان 1971، الذي بقي قائماً بين الأقطار الثلاثة حتى زيارة السادات للقدس وسيره في طريق الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني. ووقَّع القذافي "اتفاق وجدة" مع تونس لقيام اتحاد بين الدولتين في 12/1/1974، لكنه تعثَّر ولم يستمر أيضاً، كما قام اتحاد دول المغرب العربي بين ليبية وتونس والجزائر والمغرب وموريتانية في 17/12/1989، وهو مُعطَّل منذ مدة طويلة، بسبب الخلافات السياسية والحدودية. ومع أن القذافي قد أعلن أنَّه لا ييأس من تحقيق الوحدة العربية، فقد حول جهوده نحو الوحدة الإفريقية، وكان له دور مهم في توقيع ميثاق الاتحاد الإفريقي عام 2002.
أما البعد القومي الوحدوي فقد ظل و لا يزال يشكل بعداً مهماً في توجهات ثورة الفاتح من سبتمبر، وزعيمها القومي العربي الكبير معمر القذافي وسعيه ونضاله الدؤوب في سبيل تحقيق الوحدة العربية الشاملة بين جماهير الأمة، التي تجمعهم عمق الروابط الاجتماعية والتاريخية، بما يكفل تحطيم البوابات الإقليمية والقطرية المصطنعة، والحواجز الوهمية، وإزالة الحدود التي كرسها الاستعمار بين أبناء الأمة العربية الواحدة. ولقد قدمت ليبيا نموذجاً للروح الوحدوية، بأن جعلت من أراضيها أرضًا لكل العرب، وأرست مبدأ المساواة بين المواطن الليبي والعربي، في كل الحقوق والواجبات.
كما كانت مواقف ليبيا بزعامة القائد معمر القذافي، تجاه القضايا العربية ومنها قضية فلسطين والقضايا الأخرى، وكذا تجاه القضايا الإسلامية والإقليمية والدولية، مواقف راقية وشجاعة للغاية ، بما يضع ليبيا في الريادة خدمة لقضايا الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وخدمة لمصالح الأمة العربية والإنسانية.