سنة 1920 - تأسيس دولة لبنان وإعلان الجمهورية
في الأول من أيلول 1920 أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير في حدودها الحالية، وفي رعاية فرنسية في ظل نظام الانتداب الذي أقرّته عصبة الأمم. وفي 8 تشرين الثاني 1943 حررت الحكومة اللبنانية دستور 1926 من النصوص التي تعطي صلاحيات مطلقة للمفوض السامي، فردّت المفوضية العليا الفرنسية باعتقال القيادات السياسية العليا في لبنان في 11 منه وسجنتهم في قلعة راشيا التاريخية، وامتلأت ساحات لبنان بتظاهرات صاخبة في مختلف المناطق، ومن جميع الطوائف، ومورست ضغوط كبيرة من جانب دول عربية وعالمية كبيرة، مما اضطر الفرنسيين إلى اطلاق المعتقلين في 22 تشرين الثاني 1943 الذي اعتُبر عيداً رسمياً لاستقلال لبنان الوطني. فما هي أبرز حقائق تلك المرحلة من تاريخ لبنان المعاصر، بأبعادها الداخلية والإقليمية والدولية؟
استقلال لبنان في إطاره التاريخي
أعلن الفرنسيون دولة لبنان الكبير تحت شعار تدريب اللبنانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم من دون وصاية خارجية، كما ورد في صك الإنتداب. لكن إدارة الإنتداب مارست وصاية حقيقية على السوريين واللبنانيين معاً، وعيّنت حاكماً فرنسيا على دولة لبنان الكبير. حفظ دستور العام 1926 للمفوض السامي الفرنسي صلاحيات مطلقة مكّنته من تعديل الدستور أو تعطيله ساعة يشاء. وتولت إدارة الإنتداب شؤون الجمارك، وأطلقت شركة الريجي التي تحكمت بمزارعي التبغ. فكان على اللبنانيين والسوريين العمل معاً لنيل الاستقلال التام من دون وصاية أو حماية. وفي العام 1932 شجعت بريطانيا العراق على دخول عصبة الأمم، مما دفع اللبنانيين والسوريين إلى المطالبة بإبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدة صداقة وتعاون في ظل حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا التي شجعت هذا التوجه إلى أن تخلت عنه بعد سقوط حكم الجبهة، فقرر اللبنانيون والسوريون خوض معركة الاستقلال التام لإخراج القوات الفرنسية من أراضيهما.
كانت غالبية القوى اللبنانية في بداية عهد الانتداب منقسمة بين كتلة توالي الفرنسيين وأخرى تعارضهم. وبعدما خبر الجميع حكم الوصاية الفرنسية، توزعت القوى السياسية الرئيسية في لبنان بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية، وكلتاهما ترفع شعار إستقلال لبنان. وبعد سلسلة مؤتمرات الساحل الإسلامية المنادية بالوحدة مع سوريا، تراجعت حماسة الوحدويين اللبنانيين بعد مؤتمر 1936. ودعت الكتلة الوطنية في سوريا اللبنانيين إلى النضال من أجل إستقلال وطنهم أولا. وتعزز الشعور الوطني بالاستقلال عند فئات واسعة من اللبنانيين على قاعدة التخلي عن الحماية الفرنسية مقابل التخلي عن شعار الوحدة الإندماجية مع سوريا.
وبعدما سقطت فرنسا في الحرب العالمية الثانية تحت الإحتلال الألماني، تشكلت فيها حكومة فيشي الموالية للألمان، وحكومة فرنسا الحرة الموالية لدول المحور. وتصارع الفرنسيون الأحرار والفيشيون في مناطق إنتدابهم. وأعلن الجنرال كاترو استقلال لبنان في 8 كانون الأول 1941 باسم الجنرال ديغول، فانتهز اللبنانيون الفرصة للمطالبة باستقلال كامل وغير مشروط ببقاء موقع متميز لفرنسا. بدورها، شجعت بريطانيا اللبنانيين على طلب الاستقلال التام، ورفضت إبقاء موقع متميز لفرنسا، وعملت على الحلول مكانها في سوريا ولبنان. لكن الحرب العالمية الثانية أفرزت قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية أبرزها الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي. فتعاونت الدولتان في مجلس الأمن الدولي على إخراج بريطانيا وفرنسا من المناطق الخاضعة لانتدابهما. واستخدم السوفيات الفيتو في مجلس الأمن لإجلاء القوات الأجنبية عن سوريا ولبنان. في الوقت عينه، برز تحالف وثيق بين قيادات لبنانية وسورية في معركتي الاستقلال والجلاء ضد الانتداب الفرنسي.
حققت معركة الإستقلال ايجابيات كثيرة للبنانيين، فأصبح لبنان دولة مستقلة ذات سيادة، وتبنّت العلم اللبناني الجديد، والنشيد الوطني، وتسلّمت الإدارة اللبنانية، وبنت الجيش الوطني، وشاركت في توقيع بروتوكول الاسكندرية وتأسيس جامعة الدول العربية. وأصر قادتها على جلاء جميع الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية. ودخل لبنان في الأمم المتحدة عضواً مؤسساً. وتحررت الليرة اللبنانية من وصاية الفرنك الفرنسي أولاً، ومن دمجها بالليرة السورية ثانياً. وأقرت الدولة الجديدة الانفصال الجمركي وتحديد المصالح المشتركة بين الجانبين اللبناني والسوري، وغيرها. وعمل قادة الاستقلال في البلدين على فك التحالف التاريخي الذي ساعد على إنجاح معركة الاستقلال، وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية وتعزيز الحواجز الجمركية بين البلدين.
استقلال يحميه ميثاق وطني وصيغة طوائفية
ليس من شك في أن كثافة الادلجة المعتمدة في كتابة تاريخ لبنان، في جميع مراحله، شوّهت الكتابة العلمية حول قيام دولة لبنان الكبير واستقلالها. فتم تغييب الوثائق الأساسية أو الاعتماد على جزء إنتقائي منها بهدف تضخيم صورة الذات الطائفية التي تشوّه صورة لبنان الوطن، واعتماد مقولات مشوهة تنمّي الحس الطائفي على حساب الإنتماء الوطني. وبرز "صراع إيديولوجي على تاريخ لبنان". ونُشرت مقولات مغلوطة، كليا أو جزئيا، وأُغفلت عمداً الدراسات الرصينة التي حذرت من أخطار الصيغة الطوائفية كركيزة للنظام السياسي في لبنان المستقل. في المقابل، اعتبر بعض المؤرخين القومويين، سورياً وعربياً، أن لبنان الكبير دولة مصطنعة أقامها الانتداب الفرنسي بناءً لرغبة طائفة معينة، وربطوا قيامها بوعد بلفور والشروع في تنفيذ المشروع الصهيوني لقيام دولة إسرائيل ودعمها لترسيخ التجزئة التي أقرّتها اتفاقات سايكس- بيكو لمنع تحقيق الوحدة العربية.
وتزامنت معركة استقلال لبنان مع نشر تهم دغمائية وقوموية كثيرة، فوصف البعض استقلال لبنان بالهش لأنه لم يتعمد بدماء المناضلين اللبنانيين، ونعته البعض الآخر بأنه صنيعة الجنرال سبيرز لتعزيز النفوذ البريطاني على حساب النفوذ الفرنسي في شرق البحر المتوسط، وقد ولد في لحظة سقوط الدولة الفرنسية تحت الإحتلال الألماني. لكن التيار القوموي، بوجهيه السوري والعروبي في لبنان، فقد الكثير من نفوذه بسبب التبدلات المتسارعة على الساحة السورية وكثرة الانقلابات المتكررة فيها، وإعدام زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده بتواطؤ من القيادة السورية، وإتمام القطيعة الاقتصادية بين لبنان سوريا، واغتيال الزعيم اللبناني رياض الصلح بصفته أبرز دعاة القومية العربية العقلانية التي تؤمن بدور لبنان الطليعي في محيطه العربي. وتجاهلت الكتابات الطائفية المؤدلجة دور القوى الديموقراطية والعلمانية واليسارية في معركة الإستقلال التي ساهم فيها الحزب الشيوعي اللبناني بدور بارز، بالتنسيق مع الإتحاد السوفياتي. وذلك يتطلب تفكيك الخطاب الايديولوجي الطائفي، وتحليل الأهداف المعلنة لتبنّي صيغة الميثاق الوطني غير المكتوب، وهي صيغة طوائفية تستعيد صيغة نظام المتصرفية أو لبنان الصغير التي تطورت إلى صيغة لبنان الكبير المستقل. وتميزت الصيغة الجديدة عن سابقتها بخصائص واضحة أبرزها حرص القوى السياسية اللبنانية على إقامة التوازن بين الداخل اللبناني والخارج الإقليمي والدولي. فلم تعد صيغة طائفية بأغلبية مارونية تكرر مقولة "لبنان والمارونية توأمان"، لتقابلها صيغة شيعية هدفها "البحث عن تاريخنا في لبنان"، أو صيغة سنّية تستند إلى "تاريخ لبنان الاسلامي". وتعارضت صيغة "لبنان اللبناني" مع صيغة "لبنان المندمج" كلياً في محيطه القومي السوري او العربي أو المتوسطي أو الاممي. فالصيغة الجديدة تستند حصريا إلى استقلال لبنان، مع الترويج لهوية مستقلة او "لبنان في ذاته" وليس "لبنان بين مشرق ومغرب". وتنسب لبنان إلى حضارة ممتدة عبر ستة آلاف سنة، وأقيم على أرضه تراث حضاري هو ملك لجميع اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. وهي صيغة التغني بمقولات لبنان ملجأ الطوائف المضطهدة، ولبنان الأبجدية، ولبنان التنوع الثقافي والتعددية العرقية، ولبنان الصيغة الحضارية التي يفتخر بها جميع اللبنانيين لأنها مختبر للتفاعل بين الشعوب والحضارات، ولبنان الرسالة، وغيرها.
معركة الإستقلال والدروس المستفادة
حين تسلّم قادة الاستقلال مقاليد السلطة، سار معظمهم على النهج الانتدابي السابق، فتجاهلوا من ناضل دفاعاً عن الاستقلال وسقط بين قتيل وجريح ومعوق تحت ستار المحافظة على علاقات جيدة مع فرنسا بعد انسحاب قواتها من لبنان. وتجاهلت دولة الاستقلال دور القوى الوطنية التي حمت الاستقلال بصدورها العارية في بشامون وراشيا وغيرهما من المناطق اللبنانية، كما تجاهلت دور القوى غير الطائفية التي لعبت دورا ملحوظا في معركة الاستقلال، وتبنت الصيغة الطوائفية باسم الميثاق الوطني غير المكتوب لتوزيع المراكز الأساسية محاصصةً في دولة الاستقلال، وصيغة العروبة النفعية أو عروبة المصلحة في التعاون مع الدول العربية، إلى أن اضطرت في دستور 1992 إلى الاعتراف بعروبة الذات من دون التخلي عن عروبة المصلحة. وبدأت الترويج لما سمّته "المعجزة الاقتصادية اللبنانية"، و"لبنان سويسرا الشرق" في خمسينات القرن العشرين. نتيجة لذلك، تأسست قواعد صلبة لنظام طائفي تحول أخيراً إلى نظام مذهبي يجدد أزماته الدورية. وذلك يتطلب لمحة سريعة جداً لتحليل السمات الأساسية للمرحلة الممتدة من الاستقلال السياسي للبنان في العام 1943 حتى اليوم وآفاقها المستقبلية. فالصيغة الطوائفية تواجه اليوم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تنفيذه وفق استراتيجيا اميركية – اسرائيلية مشتركة تهدد وجود لبنان كوطن حر، ودولة مستقلة ذات سيادة على كامل أراضيها. فبعد مرور أكثر من سبعين عاما على الاستقلال نطرح السؤال: ماذا بقي اليوم من قيم الوحدة الوطنية التي تجلت في معركة الاستقلال لعام 1943؟
لقد تعزز دور الطائفية بدلاً من إلغائها كما تمنى الرئيس رياض الصلح، وتبنى زعماء الطوائف ديموقراطية توافقية نعتها مهندس الصيغة اللبنانية، ميشال شيحا، بأنها "ديكتاتورية مقنعة". وتميز العهد الاستقلالي الأول بالفساد الإداري والمالي وبروز ظاهرة سماسرة العهود الاستقلالية المتعاقبة التي تضم حاشية العائلة والأقربين. وتم تزوير الإرادة الشعبية في انتخابات 25 ايار 1947 تمهيدا لبدعة تعديل الدستور وتمديد الولاية التي أصبحت هدفاً سعى إليه عدد متزايد من رؤساء الجمهورية اللبنانية. واستمر حكم الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني قبل الاستقلال ولعقود طويلة بعده. ولم يستفد اللبنانيون من تجارب الدول ذات التعددية السكانية والعرقية والثقافية واللغوية والدينية التي نجحت في بناء دول ديموقراطية عصرية عرفت كيف تحافظ على التعددية السكانية والتنوع الثقافي في ظروف إقليمية ودولية مضطربة. وأجرى المثقفون اللبنانيون مقارنات عدة بين التجربة اللبنانية والتجربة السويسرية بعد وصف لبنان مراراً بسويسرا الشرق، فأكد بعضهم أن تجربة سويسرا في التعددية والتنوع شبيهة في بعض جوانبها بالتجربة اللبنانية من حيث الشعارات التي رفعتها: كالعيش المشترك، والحفاظ على الحريات الفردية والجماعية، ورفض العنف والانعزال والشعارات التي تهدد الوحدة الوطنية. لكن المقارنة غالباً ما كانت شكلية وغير مقنعة. فقد نجحت التجربة السويسرية بفضل قادة متنورين من العلمانيين، وبورجوازية عقلانية شاركت في تطوير الإنتاج والقوى المنتجة وجعلت من سويسرا بلداً معروفاً جداً في عالم المال والاقتصاد على المستوى العالمي. في المقابل، لا يزال اللبنانيون أسرى بورجوازية ريعية، تركّز على الخدمات، والمضاربات العقارية، والوساطة التجارية، وأدخلت لبنان في أزمات اقتصادية ومالية وإجتماعية مستمرة بوتيرة متصاعدة منذ الاستقلال. وتضخم دور الطائفية كثيراً لتتحول إلى مذهبية ضيقة تعمل على تدمير الوحدة الوطنية في لبنان. وفي حين أنشأت سويسرا جيشاً عصرياً يعتبر من أفضل جيوش العالم خبرةً وتسليحاً، تبنى قادة الاستقلال شعارات خلافية أبرزها: "قوة لبنان في ضعفه" و"لبنان تحميه صداقاته الخارجية"، و"الحياد الإيجابي" في الصراع العربي - الاسرائيلي. علماً أن تلك الشعارت الخادعة لم تثبت جدواها على أرض الواقع بل عرضت وحدة لبنان للتفكك وأراضيه للإحتلال. وكان مهندس الصيغة الطوائفية في لبنان، ميشال شيحا، من أوائل الذين نبّهوا إلى أخطار المشروع الصهيوني على لبنان، في كتابه المشهور "فلسطين".
بعد تحالف وثيق وطويل الأمد بين القيادتين والشعبين اللبناني والسوري في معركة الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي، عمل قادة البلدين على فك ذلك التحالف وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية، والانفصال النقدي والجمركي. ساند قادة الاستقلال اللبناني بورجوازرية الخدمات والوساطة التجارية، والمضاربات العقارية، وتجاهلوا بالكامل دور قوى المنتجة والعاملة في القطاعين الصناعي والزراعي على امتداد الأراضي اللبنانية، وساروا على خطى الفرنسيين في تشجيع التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي، وتعزيز التعليم باللغتين الفرنسية والإنكليزية الذي قاد لاحقاً إلى تراجع نوعي في التعليم والإنتاج الثقافي باللغة العربية. وتم تجاهل الدراسات العلمية التي أطلقها غبريال منسى، وموريس الجميل، والأب لوبريه منسق بعثة "إيرفد"، وغيرها من الدراسات الرصينة التي دعت إلى الاهتمام بالأرياف اللبنانية، وتنويع مصادر الدخل في لبنان بتطوير الانتاج والقوى المنتجة الى جانب قطاع الخدمات. ولم تظهر دولة الاستقلال اهتماماً جدياً بدراسات المهندس ابرهيم عبد العال المائية الذي دعا إلى ضرورة الافادة من مياه لبنان التي تذهب هدراً إلى البحر، وبناء السدود الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بأعداد كبيرة لأن لبنان معرض للتصحر ما لم يتم تدارك هذا الخطر قبل فوات الأوان. ولم تساعد القطاعات المنتجة في الزراعة والصناعة على تثبيت اللبناني على أرضه مع توفير شروط العيش الكريم له ولأسرته. فتزايدت حدة الأزمة إلى أن باتت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة في المدن والأرياف اللبنانية أشد سوءا مما كانت عليه في مطلع عهد الاستقلال. وأجهض تحالف الاقطاع السياسي مع بورجوازية الخدمات جميع الاصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية التي أنجزت في عهد الرئيس فؤاد شهاب ووصفها الدكتور إيلي سالم في أطروحته المتميزة "تحديث بدون ثورة". ونظراً إلى الفشل المستمر في مختلف مجالات الإصلاح، بقيت الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني، وشهدت مرحلة اتفاق الطائف تحالف رأسمالية الخدمات مع ابناء العائلات التاريخية، من دون أن تحدث نقلة نوعية في النظام السياسي الطائفي الذي يواجه اليوم مأزقاً بنيوياً يصعب تجاوزه. وتراجع دور التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، ومعها دور الأحزاب اللبنانية غير الطائفية، والنقابات العمالية، والإتحادات المهنية الجامعة.
إشكالية المقاومة والدولة الوطنية في لبنان
سعى المشروع الصهيوني منذ انطلاقته الأولى مع وعد بلفور إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل، فدخل لبنان دائرة الخطر الوجودي كشعب حر، ودولة مستقلة ذات سيادة تامة على أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية المعترف بها دوليا. وهيمنت المنظمات الصهيونية على مساحات واسعة من لبنان، وكثفت إسرائيل إعتداءاتها اليومية على لبنان، وكان الشريط المحتل يتمدد باستمرار داخل الأراضي اللبنانية، فتقدم لبنان بآلاف الشكاوى ضد إسرائيل، وهي مسجلة رسمياً في الأمم المتحدة التي لم تتحرك لفرض عقوبات عليها بسبب الرعاية الأميركية المستمرة لها.
بعد إنفجار الحرب الأهلية في لبنان لعام 1975، استغلت إسرائيل إرسال قوات عربية، سورية في الغالب، إلى لبنان، لضبط الأوضاع فيه، فبادرت في العام 1978 إلى احتلال مساحات واسعة من جنوب لبنان، وإنشاء قوى عميلة تتحكم بسكّانه، مما استدعى تحركاً لبنانياً وعربياً ودولياً أثمر عن صدور القرار 425 لعام 1978 عن مجلس الأمن الدولي، الذي نص على انسحاب إسرائيل الفوري من لبنان من دون قيد أو شرط. لكنها لم تنسحب من شبر واحد من أراضيه المحتلة بل سارعت إلى احتلال قرابة نصف مساحة لبنان في العام 1982، وكانت بيروت أول عاصمة عربية تقع تحت الإحتلال الإسرائيلي. ونظراً لتفكك الدولة اللبنانية ومؤسساتها السياسية والعسكرية، بادرت القوى الوطنية والتقدمية إلى إطلاق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي ضمّت في البداية أحزاباً عقائدية، وعلمانية، وقومية، ومنظمات سياسية مختلفة تعبّر عن جميع أطياف المجتمع اللبناني المقاوم. ثم اتخذت لاحقاً صفة المقاومة الإسلامية، ونجحت في إخراج إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية المحتلة في 24 أيار من العام 2000، باستثناء مزارع شبعا وقرية الغجر. وبرعاية سورية واضحة، نجحت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد اتفاق الطائف في تبنّي مقولة "الشعب والجيش والمقاومة" لحماية لبنان من غزو إسرائيلي محتمل. فاحتفظت المقاومة بسلاحها بعدما جُرّدت الميليشيات من سلاحها وأُدخلت أعداد كبيرة منها في مؤسسات الدولة، وبخاصة العسكرية منها. وتبلورت معارضة واسعة تطالب بإخراج السوريين من لبنان بعدما مارسوا أساليب الوصاية على المؤسسات اللبنانية، والتحكم بالإنتخابات النيابية، ورئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومات، والتدخل المباشر في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وزادت حدة الأزمة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، فاستغلت إسرائيل نقمة اللبنانيين على المتهمين بقتل الحريري، وفي طليعتهم سوريا و"حزب الله" لتعلن حرباً مدمرة على لبنان في صيف 2006 انتقاما لهزيمتها في العام 2000. لكنها فشلت مجددا من دون أن تتخلى عن هدفها الإستراتيجي بتدمير المقاومة اللبنانية التي تبنت استراتيجيا الرد الشامل على محاولة تغيير حدود الدول في منطقة الشرق الأوسط بأكملها وإبدال إتفاقات سايكس – بيكو القديمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد في رعاية أميركية - إسرائيلية مشتركة لإمرار المشروع الصهيوني. وبعد اتفاق الدوحة لعام 2008 أقيم حوار وطني جامع لوضع استراتيجيا دفاعية يكون هدفها الافادة من سلاح المقاومة لحماية لبنان من أخطار المشروع الصهيوني. ودعت القوى الديموقراطية مراراً إلى إطلاق مبادرات وطنية جامعة للرد على إسرائيل، أبرز بنودها: تمسك اللبنانيين بمشروع الدولة والمؤسسات الشرعية وبميثاق الطائف والدستور، وتشكيل حكومات وطنية جامعة، واستكمال الحوار الوطني بشأن السلاح غير الشرعي في لبنان، وتأكيد دور الجيش اللبناني بصفته المؤسسة الضامنة للوحدة الوطنية، وإبعاد لبنان عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية. فكان تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي عملاً بطولياً رائداً في تاريخ العرب المعاصر بسبب التضحيات البشرية والاقتصادية الكبيرة التي قدّمها شعب لبنان المقاوم. لكن فساد الطبقة السياسية في لبنان والعالم العربي عرّض ذلك الانجاز التاريخي للخطر الشديد، كما أن القوى الوطنية اللبنانية لم تحسن توظيفه في بناء دولة ديموقراطية سليمة تحصّن المجتمع اللبناني من الفتن الطائفية والمذهبية، وتحافظ على وحدة لبنان واستقلاله وسيادته. بيد أن ثقافة المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، المسلحة منها أو بأشكال أخرى، شكلت نقطة تحول جذرية ومضيئة في تاريخ لبنان المعاصر. وتقع مقاومة الهيمنة الخارجية في منزلة القلب من مشروع إصلاح النظام السياسي الطائفي في لبنان بعدما أثبتت المقاومة الوطنية قدرة اللبنانيين على بناء كتلة بشرية واسعة تحمل أهدافاً وطنية شاملة لحماية وطنهم من الأخطار التي تهدد وجوده. وعلى رغم الصيغة السياسية الطوائفية المتخلفة، قدّم اللبنانيون النموذج الأرقى لدور ثقافة المقاومة في تصليب الجبهة الداخلية ورفض التطبيع مع العدو الصهيوني.
من دستور الطائف إلى اتفاق الدوحة
على رغم مرور أربعين سنة على انفجار الحرب الأهلية المدمرة لعام 1975 التي طالت الانسان والأرض والاقتصاد، وما رافقها من صيغة اتفاق الطائف الذي أعلن في العام 1989 بمشاركة عربية ودولية لوقف الحرب في لبنان، لم يستخلص زعماء الطوائف اللبنانية الدروس اللازمة لمنع تجدد الحرب الأهلية في لبنان. فإلى جانب تكريس عروبة الذات، كرّس اتفاق الطائف، والدستور الذي بني على اساسه، صيغة طائفية هشة نسفت ركائز الإدارة اللبنانية، وعرّضتها للشلل التام، ومنعت كل اشكال الإصلاح السياسي والإداري، فتحولت الطائفية إلى مذهبية، والوحدة الوطنية إلى مقاطعات طائفية تحكمها الدولة بالتراضي مع زعماء الطوائف المحليين. وبقيت التوصيات التنموية التي نص عليها اتفاق الطائف حبراً على ورق، ومنها اللامركزية الإدارية، وتعزيز دور الجامعة اللبنانية، والتوافق على كتاب التربية الوطنية والتاريخ المدرسي الموحد، وغيرها. وتمخض اتفاق الطائف عن تبدلات دستورية ذات طابع طوائفي فكّكت ركائز النظام السياسي وأدت إلى إضعاف مركزية الدولة اللبنانية ومؤسساتها. وعاش اللبنانيون مرحلة الخوف الدائم على المصير في دولة لم تعد تتمتع بالحد الأدنى من سمات الدولة العصرية القابلة للإستمرارية بصيغتها الراهنة.
تميزت الفترة من 2008 إلى 2015 بتأجيج الصراع المذهبي في لبنان والمنطقة المجاورة. وزادت حدة الممارسات التكفيرية والإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأخواته. ولا يزال التدخل العربي والاقليمي والدولي يلعب دوراً أساسياً في إطالة حرب الاستنزاف في سوريا، وإغراق لبنان في نزاعات داخلية تهدد وحدته الوطنية. وبات اللبنانيون على اقتناع تام من أن استمرار الصراع في سوريا يقود حتماً إلى زعزعة الاستقرار في لبنان، وأن النزاع الداخلي اللبناني بصيغته الطائفية والمذهبية يُستخدم لأهداف إقليمية تهدد وجود أكثر من دولة في الشرق الأوسط.
تبدو الجهود العربية والدولية اليوم عاجزة عن احتواء الأزمة اللبنانية، وإعادة طرفي النزاع في لبنان للعمل معاً على استقرار لبنان وتعزيز الجبهة الداخلية. وهي مدعوة مجدداً لحماية المجتمع اللبناني من سلبيات الحوادث الدموية التي تنذر بفتن طائفية ومذهبية مدمرة. ليس من شك في أن ساسة لبنان لم يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية لضبط التشنج السياسي والمذهبي المتمادي إلى ابعد الحدود، ولم يعملوا على حل أيٍّ من المشكلات الكبيرة التي تواجه اللبنانيين، فزادت نسبة الفقر والبطالة، واستفحل التعصب الطائفي والمذهبي، وانتشرت المخدرات والجريمة والسرقات والفساد الإداري والمالي على نطاق واسع. وتهدد أمن اللبنانيين بصورة مرعبة بعد انفجار الحرب في سوريا، مما دفع القوى النقابية الطليعية إلى التضامن عبر هيئة التنسيق النقابية، التي خاضت نضالات مطلبية بأبعاد سياسية، واجتماعية، واقتصادية فاعلة وغير مسبوقة في تاريخ لبنان المعاصر. كما أن التحركات النقابية والإجتماعية الواسعة التي شهدها لبنان في العام 2013 لم تخفف الاحتقان الطائفي والمذهبي المتزايد. كما أن النظام السياسي الطائفي لا يزال يعمل لصالح قيادات سياسية بنت استراتيجيتها على تشجيع الولاء المذهبي على حساب الولاء الوطني، وتنمّي مصالحها الشخصية على حساب المصلحة الوطنية العليا، وتعزز ارتباطها التبعي بقوى إقليمية على حساب الوحدة الوطنية الضامنة لإستقلال لبنان وسيادته ووحدة شعبه. وأضيفت إليها تداعيات الأزمة السورية المستمرة منذ ثلاث سنوات، التي دفعت بقرابة مليوني نازح سوري إلى لبنان، فزادت من حدة مشكلاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وأثبتت الحوادث الدموية المستمرة بوتيرة متزايدة في لبنان، أن النظام السياسي الطائفي لم يعد قادراً على تجديد نفسه في ظروف انفجار الإنتفاضات العربية لعام 2011. وبعدما أسقطت الشعوب العربية أنظمة عربية عدة، من المتوقع ألاّ تبقى الأوضاع العربية من دون تغيير لأن الشعوب العربية كسرت حاجز الخوف من أنظمة الإستبداد والقمع. وهي تعمل على منع تجددها بكل الوسائل المتاحة. كما أن المقاومة الإسلامية حسمت خيارها الإستراتيجي بالإنخراط في معركة مصيرية استقطبت دولا إقليمية كبيرة، وشهدت تحالفات عربية وعالمية تحت شعار تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير أو التصدي له لمنع تغيير الحدود الجغرافية لدوله.
يؤكد تفاقم الأزمة الراهنة في لبنان اليوم، وفي ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة، أن النظام السياسي اللبناني يفتقر إلى قيادات وطنية جامعة، وإلى مؤسسات مركزية قوية تحصّن اللبنانيين من أخطار الانجرار السهل وراء قيادات مذهبية لا تتورع عن إشعال حرب أهلية دفاعاً عن مصالحهم. وهي تعتمد أسلوب الإحراج المتبادل لمنع أيّ إصلاح جذري، مما أدى إلى تفكك مؤسسات الدولة اللبنانية التي بنيت على ديموقراطية توافقية لضمان مصالح زعماء الطوائف وليس مصالح المواطنين وحماية التعددية والتنوع.
لا يزال تقسيم الدوائر الانتخابية أسير صيغة إتفاق الطائف، وهو يتناقض جذرياً مع أبسط أشكال الديموقراطية وحقوق المواطن. وقد فصلت الدوائر على مقاس زعماء الطوائف ومصالحهم الشخصية. وباتت النتائج النهائية معروفة سلفاً لعدد كبير من المقاعد النيابية قبل إجراء العملية الانتخابية نفسها، مما ساعد على استمرار الأزمة اللبنانية عبر التجديد لقياداتها الميليشيوية التي عجزت عن تحصين لبنان من أخطار الصراعات الإقليمية والدولية المتفجرة برعاية أميركية – عربية- إسرائيلية. بالإضافة إلى اختراق صهيوني متزايد للطبقات السياسية الحاكمة على امتداد العالم العربي، والإهتزاز الأمني في غالبية الدول العربية التي باتت عرضة لأزمات داخلية وأخرى وافدة من وراء الحدود، مما جعلها عرضة لإملاءات خارجية ذات أهداف غير عربية، لا بل ضد مصالح الشعوب العربية. وهناك شعور كبير بالعجز عن إصلاح النظام السياسي الطائفي لدى الغالبية الساحقة من المثقفين اللبنانيين بسبب غياب المشروع الوطني الجامع لدى فريقي الموالاة والمعارضة معا، وانعدام قدرة قوى التغيير الجذري لدى أحزاب ومنظمات المجتمع المدني في إيجاد موقع لها في التركيبة السياسية المتناحرة على السلطة. وبعدما رفض زعماء الطوائف التوافق على قانون جديد للانتخاب، مدّد البرلمان لنفسه مرتين من دون أي مبرر شرعي، وتعطلت مؤسسات الدولة، وبرز فراغ على مستوى الحكومة بعد فراغ مستمر منذ أكثر من عام في موقع رئاسة الجمهورية. وليست هناك إرادة سياسية جامعة لتحقيق شراكة وطنية حقيقية، أو عقد سياسي جماعي لبناء مواطن خارج القيد الطائفي، ودولة ديموقراطية عصرية.
ومع غياب المشاريع الوطنية القادرة على إنقاذ لبنان الوطن المهدد بالتطرف الديني، والعصبيات السياسية، والميليشيات العسكرية، والمحاور الإقليمية، والتدخلات الخارجية، يصعب الحديث عن مستقبل مشرق للبنان في حال بقاء زعماء طوائفه عاجزين عن تنظيم انتخابات نيابية ديموقراطية على قاعدة قانون عصري للإنتخاب يساوي بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، او تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، أو الجلوس إلى طاولة للحوار من دون شروط مسبقة للتوافق على استراتيجيا وطنية للدفاع تحمي اللبنانيين من الأطماع الإسرائيلية. كما أن سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية لم تنجح في منع بعض القوى اللبنانية من التدخل مباشرة إلى جانب النظام أو المعارضة في الصراع العسكري في سوريا. فشهد لبنان موجة تفجيرات إرهابية طالت جميع المناطق اللبنانية، وأودت بحياة مئات الأبرياء، وقيام فتن طائفية ومذهبية متنقلة، وإرهاب إقليمي ودولي منظم، فبات مصير لبنان أسير نزاعات إقليمية ودولية متفجرة في الشرق الأوسط.
أخيرا، في العام 2015، يعيش اللبنانيون ظروفاً صعبة جداً بسبب الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والتفجيرات الأمنية التي طالت معظم المناطق والطوائف اللبنانية. وهي الثمرة المرة لأداء طبقة سياسية فاشلة ساعدت على تزايد حدة العصبيات الطائفية، والتطرف الديني، والإهتزاز الأمني، والتدخل الإقليمي، والإختراق الصهيوني. لم تتعظ الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بموجب إتفاقي الطائف والدوحة من دروس النظام الطائفي الذي بني على الميثاق الوطني في مطلع عهد الإستقلال. فتحول لبنان إلى تجمعات طائفية ومذهبية لا تخضع لدولة القانون والعدالة والمؤسسات، وعم الفساد والنهب العلني من دون رقيب أو حسيب. وزوّرت إرادة الشعب اللبناني تحت لافتة ديموقراطية شكلية وانتخابات برلمانية زائفة. تهدد بعض القوى السياسية بالفيديرالية، والتقسيم، والأمن الذاتي، في ظل موجات التطرف الديني والغرائز المذهبية المتفلتة من الضوابط الأخلاقية والقيم الإنسانية. وشهدت المدن اللبنانية اقتتالاً عبثياً لا يخدم سوى المشروع الصهيوني.
يبدو لبنان بحاجة إلى انتفاضة شعبية لبنانية على أسس وطنية سليمة لمواجهة هذا التفتت الطائفي والمذهبي، وترسيخ مفاهيم الإستقلال الحقيقي والثوابت الوطنية، وفي مقدمها وحدة لبنان وعروبته، وبناء نظام ديموقراطي حقيقي يساوي بين اللبنانيين على مختلف الصعد، وتحرير المرأة من القيود الكثيرة التي تعوق مشاركتها الفاعلة في بناء لبنان الوطن، والحفاظ على الطاقات الشابة داخل لبنان لأن الشباب هم عماد الوطن، والقاعدة الصلبة للتغيير والإصلاح. ومن أول واجبات الدولة المركزية معالجة مشكلات الفقر والفساد، وتحقيق الإنماء المتوازن، واستقلال القضاء، ونشر الأمن على كامل تراب الوطن، وكسر الاصطفافات السياسية والمذهبية، والعمل على توليد تيار وطني عابر للطوائف. غني عن التذكير أن المثقفين اللبنانيين بحاجة ماسة اليوم إلى استعادة مقولات جيل الرواد من المثقفين اللبنانيين الذي ناضلوا بصلابة لبناء لبنان الوطن على أسس علمانية غير طائفية، فتحول مثقفو التنوير إلى رموز مضيئة في سماء لبنان ودنيا العرب لأن حياتهم اليومية كانت مرآة صادقة لكتاباتهم النظرية. وشكلت مواقفهم السياسية والفكرية والنضالية تراثاً رائداً لأجيال متلاحقة من اللبنانيين. وكم نحن بحاجة إلى متنوّرين جدد تستعيد بهم النخب الثقافية العربية بعض احترامها لدى الشباب العربي الذي فجّر انتفاضات شعبية أسقطت رموزاً سياسية فاسدة، وملأ الساحات العربية بملايين الشباب المطالبين بالتغيير الجذري. وغالباً ما يجدون اليوم إلى جانبهم مثقفين محبطين فقدوا الأمل في التغيير الديموقراطي. فأين لبنان اليوم من متنوري مرحلة النضال ضد الإستبداد العثماني، والإنتداب الفرنسي، ومن أجل الإستقلال والسيادة الوطنية؟ ومتى ينخرط مثقفو التنوير في لبنان إلى جانب القوى التي تدافع عن حرية اللبناني، وكرامته، ولقمة عيشه، وحقه في المواطنة والعلم والعمل والسكن، وفي تحقيق حلمه بقيام دولة القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة؟ فلبنان بحاجة دوما إلى مثقف تنويري غير طائفي لبناء لبنان الجديد.
في الأول من أيلول 1920 أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير في حدودها الحالية، وفي رعاية فرنسية في ظل نظام الانتداب الذي أقرّته عصبة الأمم. وفي 8 تشرين الثاني 1943 حررت الحكومة اللبنانية دستور 1926 من النصوص التي تعطي صلاحيات مطلقة للمفوض السامي، فردّت المفوضية العليا الفرنسية باعتقال القيادات السياسية العليا في لبنان في 11 منه وسجنتهم في قلعة راشيا التاريخية، وامتلأت ساحات لبنان بتظاهرات صاخبة في مختلف المناطق، ومن جميع الطوائف، ومورست ضغوط كبيرة من جانب دول عربية وعالمية كبيرة، مما اضطر الفرنسيين إلى اطلاق المعتقلين في 22 تشرين الثاني 1943 الذي اعتُبر عيداً رسمياً لاستقلال لبنان الوطني. فما هي أبرز حقائق تلك المرحلة من تاريخ لبنان المعاصر، بأبعادها الداخلية والإقليمية والدولية؟
استقلال لبنان في إطاره التاريخي
أعلن الفرنسيون دولة لبنان الكبير تحت شعار تدريب اللبنانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم من دون وصاية خارجية، كما ورد في صك الإنتداب. لكن إدارة الإنتداب مارست وصاية حقيقية على السوريين واللبنانيين معاً، وعيّنت حاكماً فرنسيا على دولة لبنان الكبير. حفظ دستور العام 1926 للمفوض السامي الفرنسي صلاحيات مطلقة مكّنته من تعديل الدستور أو تعطيله ساعة يشاء. وتولت إدارة الإنتداب شؤون الجمارك، وأطلقت شركة الريجي التي تحكمت بمزارعي التبغ. فكان على اللبنانيين والسوريين العمل معاً لنيل الاستقلال التام من دون وصاية أو حماية. وفي العام 1932 شجعت بريطانيا العراق على دخول عصبة الأمم، مما دفع اللبنانيين والسوريين إلى المطالبة بإبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدة صداقة وتعاون في ظل حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا التي شجعت هذا التوجه إلى أن تخلت عنه بعد سقوط حكم الجبهة، فقرر اللبنانيون والسوريون خوض معركة الاستقلال التام لإخراج القوات الفرنسية من أراضيهما.
كانت غالبية القوى اللبنانية في بداية عهد الانتداب منقسمة بين كتلة توالي الفرنسيين وأخرى تعارضهم. وبعدما خبر الجميع حكم الوصاية الفرنسية، توزعت القوى السياسية الرئيسية في لبنان بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية، وكلتاهما ترفع شعار إستقلال لبنان. وبعد سلسلة مؤتمرات الساحل الإسلامية المنادية بالوحدة مع سوريا، تراجعت حماسة الوحدويين اللبنانيين بعد مؤتمر 1936. ودعت الكتلة الوطنية في سوريا اللبنانيين إلى النضال من أجل إستقلال وطنهم أولا. وتعزز الشعور الوطني بالاستقلال عند فئات واسعة من اللبنانيين على قاعدة التخلي عن الحماية الفرنسية مقابل التخلي عن شعار الوحدة الإندماجية مع سوريا.
وبعدما سقطت فرنسا في الحرب العالمية الثانية تحت الإحتلال الألماني، تشكلت فيها حكومة فيشي الموالية للألمان، وحكومة فرنسا الحرة الموالية لدول المحور. وتصارع الفرنسيون الأحرار والفيشيون في مناطق إنتدابهم. وأعلن الجنرال كاترو استقلال لبنان في 8 كانون الأول 1941 باسم الجنرال ديغول، فانتهز اللبنانيون الفرصة للمطالبة باستقلال كامل وغير مشروط ببقاء موقع متميز لفرنسا. بدورها، شجعت بريطانيا اللبنانيين على طلب الاستقلال التام، ورفضت إبقاء موقع متميز لفرنسا، وعملت على الحلول مكانها في سوريا ولبنان. لكن الحرب العالمية الثانية أفرزت قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية أبرزها الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي. فتعاونت الدولتان في مجلس الأمن الدولي على إخراج بريطانيا وفرنسا من المناطق الخاضعة لانتدابهما. واستخدم السوفيات الفيتو في مجلس الأمن لإجلاء القوات الأجنبية عن سوريا ولبنان. في الوقت عينه، برز تحالف وثيق بين قيادات لبنانية وسورية في معركتي الاستقلال والجلاء ضد الانتداب الفرنسي.
حققت معركة الإستقلال ايجابيات كثيرة للبنانيين، فأصبح لبنان دولة مستقلة ذات سيادة، وتبنّت العلم اللبناني الجديد، والنشيد الوطني، وتسلّمت الإدارة اللبنانية، وبنت الجيش الوطني، وشاركت في توقيع بروتوكول الاسكندرية وتأسيس جامعة الدول العربية. وأصر قادتها على جلاء جميع الجيوش الأجنبية عن الأراضي اللبنانية. ودخل لبنان في الأمم المتحدة عضواً مؤسساً. وتحررت الليرة اللبنانية من وصاية الفرنك الفرنسي أولاً، ومن دمجها بالليرة السورية ثانياً. وأقرت الدولة الجديدة الانفصال الجمركي وتحديد المصالح المشتركة بين الجانبين اللبناني والسوري، وغيرها. وعمل قادة الاستقلال في البلدين على فك التحالف التاريخي الذي ساعد على إنجاح معركة الاستقلال، وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية وتعزيز الحواجز الجمركية بين البلدين.
استقلال يحميه ميثاق وطني وصيغة طوائفية
ليس من شك في أن كثافة الادلجة المعتمدة في كتابة تاريخ لبنان، في جميع مراحله، شوّهت الكتابة العلمية حول قيام دولة لبنان الكبير واستقلالها. فتم تغييب الوثائق الأساسية أو الاعتماد على جزء إنتقائي منها بهدف تضخيم صورة الذات الطائفية التي تشوّه صورة لبنان الوطن، واعتماد مقولات مشوهة تنمّي الحس الطائفي على حساب الإنتماء الوطني. وبرز "صراع إيديولوجي على تاريخ لبنان". ونُشرت مقولات مغلوطة، كليا أو جزئيا، وأُغفلت عمداً الدراسات الرصينة التي حذرت من أخطار الصيغة الطوائفية كركيزة للنظام السياسي في لبنان المستقل. في المقابل، اعتبر بعض المؤرخين القومويين، سورياً وعربياً، أن لبنان الكبير دولة مصطنعة أقامها الانتداب الفرنسي بناءً لرغبة طائفة معينة، وربطوا قيامها بوعد بلفور والشروع في تنفيذ المشروع الصهيوني لقيام دولة إسرائيل ودعمها لترسيخ التجزئة التي أقرّتها اتفاقات سايكس- بيكو لمنع تحقيق الوحدة العربية.
وتزامنت معركة استقلال لبنان مع نشر تهم دغمائية وقوموية كثيرة، فوصف البعض استقلال لبنان بالهش لأنه لم يتعمد بدماء المناضلين اللبنانيين، ونعته البعض الآخر بأنه صنيعة الجنرال سبيرز لتعزيز النفوذ البريطاني على حساب النفوذ الفرنسي في شرق البحر المتوسط، وقد ولد في لحظة سقوط الدولة الفرنسية تحت الإحتلال الألماني. لكن التيار القوموي، بوجهيه السوري والعروبي في لبنان، فقد الكثير من نفوذه بسبب التبدلات المتسارعة على الساحة السورية وكثرة الانقلابات المتكررة فيها، وإعدام زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده بتواطؤ من القيادة السورية، وإتمام القطيعة الاقتصادية بين لبنان سوريا، واغتيال الزعيم اللبناني رياض الصلح بصفته أبرز دعاة القومية العربية العقلانية التي تؤمن بدور لبنان الطليعي في محيطه العربي. وتجاهلت الكتابات الطائفية المؤدلجة دور القوى الديموقراطية والعلمانية واليسارية في معركة الإستقلال التي ساهم فيها الحزب الشيوعي اللبناني بدور بارز، بالتنسيق مع الإتحاد السوفياتي. وذلك يتطلب تفكيك الخطاب الايديولوجي الطائفي، وتحليل الأهداف المعلنة لتبنّي صيغة الميثاق الوطني غير المكتوب، وهي صيغة طوائفية تستعيد صيغة نظام المتصرفية أو لبنان الصغير التي تطورت إلى صيغة لبنان الكبير المستقل. وتميزت الصيغة الجديدة عن سابقتها بخصائص واضحة أبرزها حرص القوى السياسية اللبنانية على إقامة التوازن بين الداخل اللبناني والخارج الإقليمي والدولي. فلم تعد صيغة طائفية بأغلبية مارونية تكرر مقولة "لبنان والمارونية توأمان"، لتقابلها صيغة شيعية هدفها "البحث عن تاريخنا في لبنان"، أو صيغة سنّية تستند إلى "تاريخ لبنان الاسلامي". وتعارضت صيغة "لبنان اللبناني" مع صيغة "لبنان المندمج" كلياً في محيطه القومي السوري او العربي أو المتوسطي أو الاممي. فالصيغة الجديدة تستند حصريا إلى استقلال لبنان، مع الترويج لهوية مستقلة او "لبنان في ذاته" وليس "لبنان بين مشرق ومغرب". وتنسب لبنان إلى حضارة ممتدة عبر ستة آلاف سنة، وأقيم على أرضه تراث حضاري هو ملك لجميع اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. وهي صيغة التغني بمقولات لبنان ملجأ الطوائف المضطهدة، ولبنان الأبجدية، ولبنان التنوع الثقافي والتعددية العرقية، ولبنان الصيغة الحضارية التي يفتخر بها جميع اللبنانيين لأنها مختبر للتفاعل بين الشعوب والحضارات، ولبنان الرسالة، وغيرها.
معركة الإستقلال والدروس المستفادة
حين تسلّم قادة الاستقلال مقاليد السلطة، سار معظمهم على النهج الانتدابي السابق، فتجاهلوا من ناضل دفاعاً عن الاستقلال وسقط بين قتيل وجريح ومعوق تحت ستار المحافظة على علاقات جيدة مع فرنسا بعد انسحاب قواتها من لبنان. وتجاهلت دولة الاستقلال دور القوى الوطنية التي حمت الاستقلال بصدورها العارية في بشامون وراشيا وغيرهما من المناطق اللبنانية، كما تجاهلت دور القوى غير الطائفية التي لعبت دورا ملحوظا في معركة الاستقلال، وتبنت الصيغة الطوائفية باسم الميثاق الوطني غير المكتوب لتوزيع المراكز الأساسية محاصصةً في دولة الاستقلال، وصيغة العروبة النفعية أو عروبة المصلحة في التعاون مع الدول العربية، إلى أن اضطرت في دستور 1992 إلى الاعتراف بعروبة الذات من دون التخلي عن عروبة المصلحة. وبدأت الترويج لما سمّته "المعجزة الاقتصادية اللبنانية"، و"لبنان سويسرا الشرق" في خمسينات القرن العشرين. نتيجة لذلك، تأسست قواعد صلبة لنظام طائفي تحول أخيراً إلى نظام مذهبي يجدد أزماته الدورية. وذلك يتطلب لمحة سريعة جداً لتحليل السمات الأساسية للمرحلة الممتدة من الاستقلال السياسي للبنان في العام 1943 حتى اليوم وآفاقها المستقبلية. فالصيغة الطوائفية تواجه اليوم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تنفيذه وفق استراتيجيا اميركية – اسرائيلية مشتركة تهدد وجود لبنان كوطن حر، ودولة مستقلة ذات سيادة على كامل أراضيها. فبعد مرور أكثر من سبعين عاما على الاستقلال نطرح السؤال: ماذا بقي اليوم من قيم الوحدة الوطنية التي تجلت في معركة الاستقلال لعام 1943؟
لقد تعزز دور الطائفية بدلاً من إلغائها كما تمنى الرئيس رياض الصلح، وتبنى زعماء الطوائف ديموقراطية توافقية نعتها مهندس الصيغة اللبنانية، ميشال شيحا، بأنها "ديكتاتورية مقنعة". وتميز العهد الاستقلالي الأول بالفساد الإداري والمالي وبروز ظاهرة سماسرة العهود الاستقلالية المتعاقبة التي تضم حاشية العائلة والأقربين. وتم تزوير الإرادة الشعبية في انتخابات 25 ايار 1947 تمهيدا لبدعة تعديل الدستور وتمديد الولاية التي أصبحت هدفاً سعى إليه عدد متزايد من رؤساء الجمهورية اللبنانية. واستمر حكم الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني قبل الاستقلال ولعقود طويلة بعده. ولم يستفد اللبنانيون من تجارب الدول ذات التعددية السكانية والعرقية والثقافية واللغوية والدينية التي نجحت في بناء دول ديموقراطية عصرية عرفت كيف تحافظ على التعددية السكانية والتنوع الثقافي في ظروف إقليمية ودولية مضطربة. وأجرى المثقفون اللبنانيون مقارنات عدة بين التجربة اللبنانية والتجربة السويسرية بعد وصف لبنان مراراً بسويسرا الشرق، فأكد بعضهم أن تجربة سويسرا في التعددية والتنوع شبيهة في بعض جوانبها بالتجربة اللبنانية من حيث الشعارات التي رفعتها: كالعيش المشترك، والحفاظ على الحريات الفردية والجماعية، ورفض العنف والانعزال والشعارات التي تهدد الوحدة الوطنية. لكن المقارنة غالباً ما كانت شكلية وغير مقنعة. فقد نجحت التجربة السويسرية بفضل قادة متنورين من العلمانيين، وبورجوازية عقلانية شاركت في تطوير الإنتاج والقوى المنتجة وجعلت من سويسرا بلداً معروفاً جداً في عالم المال والاقتصاد على المستوى العالمي. في المقابل، لا يزال اللبنانيون أسرى بورجوازية ريعية، تركّز على الخدمات، والمضاربات العقارية، والوساطة التجارية، وأدخلت لبنان في أزمات اقتصادية ومالية وإجتماعية مستمرة بوتيرة متصاعدة منذ الاستقلال. وتضخم دور الطائفية كثيراً لتتحول إلى مذهبية ضيقة تعمل على تدمير الوحدة الوطنية في لبنان. وفي حين أنشأت سويسرا جيشاً عصرياً يعتبر من أفضل جيوش العالم خبرةً وتسليحاً، تبنى قادة الاستقلال شعارات خلافية أبرزها: "قوة لبنان في ضعفه" و"لبنان تحميه صداقاته الخارجية"، و"الحياد الإيجابي" في الصراع العربي - الاسرائيلي. علماً أن تلك الشعارت الخادعة لم تثبت جدواها على أرض الواقع بل عرضت وحدة لبنان للتفكك وأراضيه للإحتلال. وكان مهندس الصيغة الطوائفية في لبنان، ميشال شيحا، من أوائل الذين نبّهوا إلى أخطار المشروع الصهيوني على لبنان، في كتابه المشهور "فلسطين".
بعد تحالف وثيق وطويل الأمد بين القيادتين والشعبين اللبناني والسوري في معركة الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي، عمل قادة البلدين على فك ذلك التحالف وساروا على طريق القطيعة الاقتصادية، والانفصال النقدي والجمركي. ساند قادة الاستقلال اللبناني بورجوازرية الخدمات والوساطة التجارية، والمضاربات العقارية، وتجاهلوا بالكامل دور قوى المنتجة والعاملة في القطاعين الصناعي والزراعي على امتداد الأراضي اللبنانية، وساروا على خطى الفرنسيين في تشجيع التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي، وتعزيز التعليم باللغتين الفرنسية والإنكليزية الذي قاد لاحقاً إلى تراجع نوعي في التعليم والإنتاج الثقافي باللغة العربية. وتم تجاهل الدراسات العلمية التي أطلقها غبريال منسى، وموريس الجميل، والأب لوبريه منسق بعثة "إيرفد"، وغيرها من الدراسات الرصينة التي دعت إلى الاهتمام بالأرياف اللبنانية، وتنويع مصادر الدخل في لبنان بتطوير الانتاج والقوى المنتجة الى جانب قطاع الخدمات. ولم تظهر دولة الاستقلال اهتماماً جدياً بدراسات المهندس ابرهيم عبد العال المائية الذي دعا إلى ضرورة الافادة من مياه لبنان التي تذهب هدراً إلى البحر، وبناء السدود الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بأعداد كبيرة لأن لبنان معرض للتصحر ما لم يتم تدارك هذا الخطر قبل فوات الأوان. ولم تساعد القطاعات المنتجة في الزراعة والصناعة على تثبيت اللبناني على أرضه مع توفير شروط العيش الكريم له ولأسرته. فتزايدت حدة الأزمة إلى أن باتت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المتوسطة والفقيرة في المدن والأرياف اللبنانية أشد سوءا مما كانت عليه في مطلع عهد الاستقلال. وأجهض تحالف الاقطاع السياسي مع بورجوازية الخدمات جميع الاصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية التي أنجزت في عهد الرئيس فؤاد شهاب ووصفها الدكتور إيلي سالم في أطروحته المتميزة "تحديث بدون ثورة". ونظراً إلى الفشل المستمر في مختلف مجالات الإصلاح، بقيت الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني، وشهدت مرحلة اتفاق الطائف تحالف رأسمالية الخدمات مع ابناء العائلات التاريخية، من دون أن تحدث نقلة نوعية في النظام السياسي الطائفي الذي يواجه اليوم مأزقاً بنيوياً يصعب تجاوزه. وتراجع دور التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، ومعها دور الأحزاب اللبنانية غير الطائفية، والنقابات العمالية، والإتحادات المهنية الجامعة.
إشكالية المقاومة والدولة الوطنية في لبنان
سعى المشروع الصهيوني منذ انطلاقته الأولى مع وعد بلفور إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل، فدخل لبنان دائرة الخطر الوجودي كشعب حر، ودولة مستقلة ذات سيادة تامة على أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية المعترف بها دوليا. وهيمنت المنظمات الصهيونية على مساحات واسعة من لبنان، وكثفت إسرائيل إعتداءاتها اليومية على لبنان، وكان الشريط المحتل يتمدد باستمرار داخل الأراضي اللبنانية، فتقدم لبنان بآلاف الشكاوى ضد إسرائيل، وهي مسجلة رسمياً في الأمم المتحدة التي لم تتحرك لفرض عقوبات عليها بسبب الرعاية الأميركية المستمرة لها.
بعد إنفجار الحرب الأهلية في لبنان لعام 1975، استغلت إسرائيل إرسال قوات عربية، سورية في الغالب، إلى لبنان، لضبط الأوضاع فيه، فبادرت في العام 1978 إلى احتلال مساحات واسعة من جنوب لبنان، وإنشاء قوى عميلة تتحكم بسكّانه، مما استدعى تحركاً لبنانياً وعربياً ودولياً أثمر عن صدور القرار 425 لعام 1978 عن مجلس الأمن الدولي، الذي نص على انسحاب إسرائيل الفوري من لبنان من دون قيد أو شرط. لكنها لم تنسحب من شبر واحد من أراضيه المحتلة بل سارعت إلى احتلال قرابة نصف مساحة لبنان في العام 1982، وكانت بيروت أول عاصمة عربية تقع تحت الإحتلال الإسرائيلي. ونظراً لتفكك الدولة اللبنانية ومؤسساتها السياسية والعسكرية، بادرت القوى الوطنية والتقدمية إلى إطلاق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي ضمّت في البداية أحزاباً عقائدية، وعلمانية، وقومية، ومنظمات سياسية مختلفة تعبّر عن جميع أطياف المجتمع اللبناني المقاوم. ثم اتخذت لاحقاً صفة المقاومة الإسلامية، ونجحت في إخراج إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية المحتلة في 24 أيار من العام 2000، باستثناء مزارع شبعا وقرية الغجر. وبرعاية سورية واضحة، نجحت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد اتفاق الطائف في تبنّي مقولة "الشعب والجيش والمقاومة" لحماية لبنان من غزو إسرائيلي محتمل. فاحتفظت المقاومة بسلاحها بعدما جُرّدت الميليشيات من سلاحها وأُدخلت أعداد كبيرة منها في مؤسسات الدولة، وبخاصة العسكرية منها. وتبلورت معارضة واسعة تطالب بإخراج السوريين من لبنان بعدما مارسوا أساليب الوصاية على المؤسسات اللبنانية، والتحكم بالإنتخابات النيابية، ورئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومات، والتدخل المباشر في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وزادت حدة الأزمة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، فاستغلت إسرائيل نقمة اللبنانيين على المتهمين بقتل الحريري، وفي طليعتهم سوريا و"حزب الله" لتعلن حرباً مدمرة على لبنان في صيف 2006 انتقاما لهزيمتها في العام 2000. لكنها فشلت مجددا من دون أن تتخلى عن هدفها الإستراتيجي بتدمير المقاومة اللبنانية التي تبنت استراتيجيا الرد الشامل على محاولة تغيير حدود الدول في منطقة الشرق الأوسط بأكملها وإبدال إتفاقات سايكس – بيكو القديمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد في رعاية أميركية - إسرائيلية مشتركة لإمرار المشروع الصهيوني. وبعد اتفاق الدوحة لعام 2008 أقيم حوار وطني جامع لوضع استراتيجيا دفاعية يكون هدفها الافادة من سلاح المقاومة لحماية لبنان من أخطار المشروع الصهيوني. ودعت القوى الديموقراطية مراراً إلى إطلاق مبادرات وطنية جامعة للرد على إسرائيل، أبرز بنودها: تمسك اللبنانيين بمشروع الدولة والمؤسسات الشرعية وبميثاق الطائف والدستور، وتشكيل حكومات وطنية جامعة، واستكمال الحوار الوطني بشأن السلاح غير الشرعي في لبنان، وتأكيد دور الجيش اللبناني بصفته المؤسسة الضامنة للوحدة الوطنية، وإبعاد لبنان عن سياسة المحاور الاقليمية والدولية. فكان تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي عملاً بطولياً رائداً في تاريخ العرب المعاصر بسبب التضحيات البشرية والاقتصادية الكبيرة التي قدّمها شعب لبنان المقاوم. لكن فساد الطبقة السياسية في لبنان والعالم العربي عرّض ذلك الانجاز التاريخي للخطر الشديد، كما أن القوى الوطنية اللبنانية لم تحسن توظيفه في بناء دولة ديموقراطية سليمة تحصّن المجتمع اللبناني من الفتن الطائفية والمذهبية، وتحافظ على وحدة لبنان واستقلاله وسيادته. بيد أن ثقافة المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، المسلحة منها أو بأشكال أخرى، شكلت نقطة تحول جذرية ومضيئة في تاريخ لبنان المعاصر. وتقع مقاومة الهيمنة الخارجية في منزلة القلب من مشروع إصلاح النظام السياسي الطائفي في لبنان بعدما أثبتت المقاومة الوطنية قدرة اللبنانيين على بناء كتلة بشرية واسعة تحمل أهدافاً وطنية شاملة لحماية وطنهم من الأخطار التي تهدد وجوده. وعلى رغم الصيغة السياسية الطوائفية المتخلفة، قدّم اللبنانيون النموذج الأرقى لدور ثقافة المقاومة في تصليب الجبهة الداخلية ورفض التطبيع مع العدو الصهيوني.
من دستور الطائف إلى اتفاق الدوحة
على رغم مرور أربعين سنة على انفجار الحرب الأهلية المدمرة لعام 1975 التي طالت الانسان والأرض والاقتصاد، وما رافقها من صيغة اتفاق الطائف الذي أعلن في العام 1989 بمشاركة عربية ودولية لوقف الحرب في لبنان، لم يستخلص زعماء الطوائف اللبنانية الدروس اللازمة لمنع تجدد الحرب الأهلية في لبنان. فإلى جانب تكريس عروبة الذات، كرّس اتفاق الطائف، والدستور الذي بني على اساسه، صيغة طائفية هشة نسفت ركائز الإدارة اللبنانية، وعرّضتها للشلل التام، ومنعت كل اشكال الإصلاح السياسي والإداري، فتحولت الطائفية إلى مذهبية، والوحدة الوطنية إلى مقاطعات طائفية تحكمها الدولة بالتراضي مع زعماء الطوائف المحليين. وبقيت التوصيات التنموية التي نص عليها اتفاق الطائف حبراً على ورق، ومنها اللامركزية الإدارية، وتعزيز دور الجامعة اللبنانية، والتوافق على كتاب التربية الوطنية والتاريخ المدرسي الموحد، وغيرها. وتمخض اتفاق الطائف عن تبدلات دستورية ذات طابع طوائفي فكّكت ركائز النظام السياسي وأدت إلى إضعاف مركزية الدولة اللبنانية ومؤسساتها. وعاش اللبنانيون مرحلة الخوف الدائم على المصير في دولة لم تعد تتمتع بالحد الأدنى من سمات الدولة العصرية القابلة للإستمرارية بصيغتها الراهنة.
تميزت الفترة من 2008 إلى 2015 بتأجيج الصراع المذهبي في لبنان والمنطقة المجاورة. وزادت حدة الممارسات التكفيرية والإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأخواته. ولا يزال التدخل العربي والاقليمي والدولي يلعب دوراً أساسياً في إطالة حرب الاستنزاف في سوريا، وإغراق لبنان في نزاعات داخلية تهدد وحدته الوطنية. وبات اللبنانيون على اقتناع تام من أن استمرار الصراع في سوريا يقود حتماً إلى زعزعة الاستقرار في لبنان، وأن النزاع الداخلي اللبناني بصيغته الطائفية والمذهبية يُستخدم لأهداف إقليمية تهدد وجود أكثر من دولة في الشرق الأوسط.
تبدو الجهود العربية والدولية اليوم عاجزة عن احتواء الأزمة اللبنانية، وإعادة طرفي النزاع في لبنان للعمل معاً على استقرار لبنان وتعزيز الجبهة الداخلية. وهي مدعوة مجدداً لحماية المجتمع اللبناني من سلبيات الحوادث الدموية التي تنذر بفتن طائفية ومذهبية مدمرة. ليس من شك في أن ساسة لبنان لم يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية لضبط التشنج السياسي والمذهبي المتمادي إلى ابعد الحدود، ولم يعملوا على حل أيٍّ من المشكلات الكبيرة التي تواجه اللبنانيين، فزادت نسبة الفقر والبطالة، واستفحل التعصب الطائفي والمذهبي، وانتشرت المخدرات والجريمة والسرقات والفساد الإداري والمالي على نطاق واسع. وتهدد أمن اللبنانيين بصورة مرعبة بعد انفجار الحرب في سوريا، مما دفع القوى النقابية الطليعية إلى التضامن عبر هيئة التنسيق النقابية، التي خاضت نضالات مطلبية بأبعاد سياسية، واجتماعية، واقتصادية فاعلة وغير مسبوقة في تاريخ لبنان المعاصر. كما أن التحركات النقابية والإجتماعية الواسعة التي شهدها لبنان في العام 2013 لم تخفف الاحتقان الطائفي والمذهبي المتزايد. كما أن النظام السياسي الطائفي لا يزال يعمل لصالح قيادات سياسية بنت استراتيجيتها على تشجيع الولاء المذهبي على حساب الولاء الوطني، وتنمّي مصالحها الشخصية على حساب المصلحة الوطنية العليا، وتعزز ارتباطها التبعي بقوى إقليمية على حساب الوحدة الوطنية الضامنة لإستقلال لبنان وسيادته ووحدة شعبه. وأضيفت إليها تداعيات الأزمة السورية المستمرة منذ ثلاث سنوات، التي دفعت بقرابة مليوني نازح سوري إلى لبنان، فزادت من حدة مشكلاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وأثبتت الحوادث الدموية المستمرة بوتيرة متزايدة في لبنان، أن النظام السياسي الطائفي لم يعد قادراً على تجديد نفسه في ظروف انفجار الإنتفاضات العربية لعام 2011. وبعدما أسقطت الشعوب العربية أنظمة عربية عدة، من المتوقع ألاّ تبقى الأوضاع العربية من دون تغيير لأن الشعوب العربية كسرت حاجز الخوف من أنظمة الإستبداد والقمع. وهي تعمل على منع تجددها بكل الوسائل المتاحة. كما أن المقاومة الإسلامية حسمت خيارها الإستراتيجي بالإنخراط في معركة مصيرية استقطبت دولا إقليمية كبيرة، وشهدت تحالفات عربية وعالمية تحت شعار تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير أو التصدي له لمنع تغيير الحدود الجغرافية لدوله.
يؤكد تفاقم الأزمة الراهنة في لبنان اليوم، وفي ظروف إقليمية ودولية بالغة الخطورة، أن النظام السياسي اللبناني يفتقر إلى قيادات وطنية جامعة، وإلى مؤسسات مركزية قوية تحصّن اللبنانيين من أخطار الانجرار السهل وراء قيادات مذهبية لا تتورع عن إشعال حرب أهلية دفاعاً عن مصالحهم. وهي تعتمد أسلوب الإحراج المتبادل لمنع أيّ إصلاح جذري، مما أدى إلى تفكك مؤسسات الدولة اللبنانية التي بنيت على ديموقراطية توافقية لضمان مصالح زعماء الطوائف وليس مصالح المواطنين وحماية التعددية والتنوع.
لا يزال تقسيم الدوائر الانتخابية أسير صيغة إتفاق الطائف، وهو يتناقض جذرياً مع أبسط أشكال الديموقراطية وحقوق المواطن. وقد فصلت الدوائر على مقاس زعماء الطوائف ومصالحهم الشخصية. وباتت النتائج النهائية معروفة سلفاً لعدد كبير من المقاعد النيابية قبل إجراء العملية الانتخابية نفسها، مما ساعد على استمرار الأزمة اللبنانية عبر التجديد لقياداتها الميليشيوية التي عجزت عن تحصين لبنان من أخطار الصراعات الإقليمية والدولية المتفجرة برعاية أميركية – عربية- إسرائيلية. بالإضافة إلى اختراق صهيوني متزايد للطبقات السياسية الحاكمة على امتداد العالم العربي، والإهتزاز الأمني في غالبية الدول العربية التي باتت عرضة لأزمات داخلية وأخرى وافدة من وراء الحدود، مما جعلها عرضة لإملاءات خارجية ذات أهداف غير عربية، لا بل ضد مصالح الشعوب العربية. وهناك شعور كبير بالعجز عن إصلاح النظام السياسي الطائفي لدى الغالبية الساحقة من المثقفين اللبنانيين بسبب غياب المشروع الوطني الجامع لدى فريقي الموالاة والمعارضة معا، وانعدام قدرة قوى التغيير الجذري لدى أحزاب ومنظمات المجتمع المدني في إيجاد موقع لها في التركيبة السياسية المتناحرة على السلطة. وبعدما رفض زعماء الطوائف التوافق على قانون جديد للانتخاب، مدّد البرلمان لنفسه مرتين من دون أي مبرر شرعي، وتعطلت مؤسسات الدولة، وبرز فراغ على مستوى الحكومة بعد فراغ مستمر منذ أكثر من عام في موقع رئاسة الجمهورية. وليست هناك إرادة سياسية جامعة لتحقيق شراكة وطنية حقيقية، أو عقد سياسي جماعي لبناء مواطن خارج القيد الطائفي، ودولة ديموقراطية عصرية.
ومع غياب المشاريع الوطنية القادرة على إنقاذ لبنان الوطن المهدد بالتطرف الديني، والعصبيات السياسية، والميليشيات العسكرية، والمحاور الإقليمية، والتدخلات الخارجية، يصعب الحديث عن مستقبل مشرق للبنان في حال بقاء زعماء طوائفه عاجزين عن تنظيم انتخابات نيابية ديموقراطية على قاعدة قانون عصري للإنتخاب يساوي بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، او تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، أو الجلوس إلى طاولة للحوار من دون شروط مسبقة للتوافق على استراتيجيا وطنية للدفاع تحمي اللبنانيين من الأطماع الإسرائيلية. كما أن سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية لم تنجح في منع بعض القوى اللبنانية من التدخل مباشرة إلى جانب النظام أو المعارضة في الصراع العسكري في سوريا. فشهد لبنان موجة تفجيرات إرهابية طالت جميع المناطق اللبنانية، وأودت بحياة مئات الأبرياء، وقيام فتن طائفية ومذهبية متنقلة، وإرهاب إقليمي ودولي منظم، فبات مصير لبنان أسير نزاعات إقليمية ودولية متفجرة في الشرق الأوسط.
أخيرا، في العام 2015، يعيش اللبنانيون ظروفاً صعبة جداً بسبب الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والتفجيرات الأمنية التي طالت معظم المناطق والطوائف اللبنانية. وهي الثمرة المرة لأداء طبقة سياسية فاشلة ساعدت على تزايد حدة العصبيات الطائفية، والتطرف الديني، والإهتزاز الأمني، والتدخل الإقليمي، والإختراق الصهيوني. لم تتعظ الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بموجب إتفاقي الطائف والدوحة من دروس النظام الطائفي الذي بني على الميثاق الوطني في مطلع عهد الإستقلال. فتحول لبنان إلى تجمعات طائفية ومذهبية لا تخضع لدولة القانون والعدالة والمؤسسات، وعم الفساد والنهب العلني من دون رقيب أو حسيب. وزوّرت إرادة الشعب اللبناني تحت لافتة ديموقراطية شكلية وانتخابات برلمانية زائفة. تهدد بعض القوى السياسية بالفيديرالية، والتقسيم، والأمن الذاتي، في ظل موجات التطرف الديني والغرائز المذهبية المتفلتة من الضوابط الأخلاقية والقيم الإنسانية. وشهدت المدن اللبنانية اقتتالاً عبثياً لا يخدم سوى المشروع الصهيوني.
يبدو لبنان بحاجة إلى انتفاضة شعبية لبنانية على أسس وطنية سليمة لمواجهة هذا التفتت الطائفي والمذهبي، وترسيخ مفاهيم الإستقلال الحقيقي والثوابت الوطنية، وفي مقدمها وحدة لبنان وعروبته، وبناء نظام ديموقراطي حقيقي يساوي بين اللبنانيين على مختلف الصعد، وتحرير المرأة من القيود الكثيرة التي تعوق مشاركتها الفاعلة في بناء لبنان الوطن، والحفاظ على الطاقات الشابة داخل لبنان لأن الشباب هم عماد الوطن، والقاعدة الصلبة للتغيير والإصلاح. ومن أول واجبات الدولة المركزية معالجة مشكلات الفقر والفساد، وتحقيق الإنماء المتوازن، واستقلال القضاء، ونشر الأمن على كامل تراب الوطن، وكسر الاصطفافات السياسية والمذهبية، والعمل على توليد تيار وطني عابر للطوائف. غني عن التذكير أن المثقفين اللبنانيين بحاجة ماسة اليوم إلى استعادة مقولات جيل الرواد من المثقفين اللبنانيين الذي ناضلوا بصلابة لبناء لبنان الوطن على أسس علمانية غير طائفية، فتحول مثقفو التنوير إلى رموز مضيئة في سماء لبنان ودنيا العرب لأن حياتهم اليومية كانت مرآة صادقة لكتاباتهم النظرية. وشكلت مواقفهم السياسية والفكرية والنضالية تراثاً رائداً لأجيال متلاحقة من اللبنانيين. وكم نحن بحاجة إلى متنوّرين جدد تستعيد بهم النخب الثقافية العربية بعض احترامها لدى الشباب العربي الذي فجّر انتفاضات شعبية أسقطت رموزاً سياسية فاسدة، وملأ الساحات العربية بملايين الشباب المطالبين بالتغيير الجذري. وغالباً ما يجدون اليوم إلى جانبهم مثقفين محبطين فقدوا الأمل في التغيير الديموقراطي. فأين لبنان اليوم من متنوري مرحلة النضال ضد الإستبداد العثماني، والإنتداب الفرنسي، ومن أجل الإستقلال والسيادة الوطنية؟ ومتى ينخرط مثقفو التنوير في لبنان إلى جانب القوى التي تدافع عن حرية اللبناني، وكرامته، ولقمة عيشه، وحقه في المواطنة والعلم والعمل والسكن، وفي تحقيق حلمه بقيام دولة القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة؟ فلبنان بحاجة دوما إلى مثقف تنويري غير طائفي لبناء لبنان الجديد.