مشروع الشرق الاوسط الكبير أو المبادرة المستحيلة
إعداد: د. نسيم الخوري
استاذ جامعي، المدير السابق لكلية الاعلام والتوثيق، الجامعة اللبنانية
في التسمية
لا يحمل مصطلح "الشرق الأوسط" المعنى نفسه بالنسبة إلى الباحثين والسياسيين، وهو يبدو وكأنه مصطلح متحرك غير مستقر بعد، وربما ما عرف الإستقرار، بالمعنى التاريخي وغيره من المعاني، لا في اللسان الغربي ولا في الترجمات العربية المرادفة له، ولا حتى في أبعاده الجغرافية ومفاعيله وتداعياته فوق رقعة الجغرافيا الآسيو-أفريقية.
فمن "الشرق الأوسط" ويقابلها في الانكليزية "الميدل إيست" إلى "الشرق الأوسط الكبير" أو "الأكبر" و"الواسع" و"الأوسع" كما نقرأ في التسميات الأميركية المستجدة، مروراً «بالشرق الأدنى Moyen orient" أو «المتوسطية الأوروبية» وفقاً للتسميات الفرنسية والألمانية([1])، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتلتقي أو تتباين الأفكار والرؤى الاقتصادية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط، وتبدو الجغرافيا الخاصة بتلك المنطقة مفتوحة لتلقف الخرائط والمشاريع والمبادرات، فتتسع لتضم الدول العربية وتركيا وإيران، و«إسرائيل» ودولاً متعددة من آسيا الوسطى ليست محددة بعد، أي مجمل الدول العربية والإسلامية، أو تضيق لتقتصر على عدد محدود من هذه الدول.
وليس أبلغ من قول الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى من أن "السماء تمطر مبادرات" تعبيراً عن واقع الشرق الأوسط بعد غزو العراق، خصوصاً كما قال ان "امر المباردة عاجل يفترض اتخاذ قرار أو موقف([2])" ويعني به المبادرة الأميركية لمشروع الشرق الأوسط الكبير([3]).
يستوقفنا في هذا القول إشارتان:
1-الإشارة الأولى في استعماله لكلمة «السماء» الواقعة في صلب الحدث، مع انه لم يقصدها، فهي تشير ببلاغة كاملة إلى العصر الأميركي أو إلى دول العولمة ونعني بها الولايات المتحدة الأميركية التي اعلنت عصر الفضاء في حروبها ومحاولة سيطرتها "رقميا"» على العالم. تجتاز هذه الدولة الفضاء في خطى مسرعة وتعلن عصر النار بعدما اجتازت في خطاها، ومعها شعوب أخرى كثيرة، حضارتي الأرض والماء أي اليابسة والمحيطات (وهنا تذكير بعناصر الخلق الأربع).
2- ليس أمر المبادرة التي اطلقها بوش للشرق الأوسط عاجلاً، بل أنها تكاد تكون مستحيلة ويصعب ضبطها في زمن محدد أو في اجيال محددة، ولذا وقعت صفة العجالة في غير موقعها... لكنها بطيئة بالطبع.
تساؤلات منهجية
وإذا كانت هذه المبادرة - المشروع قد ظهرت مباشرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وخصوصاً في سياق نقل السلطة إلى العراقيين، فإن مجموعة كبرى من التساؤلات تفرض نفسها هنا:
- لماذا مبادرة مشروع "الشرق الأوسط الكبير"؟
- ماذا نعني بالشرق الأوسط الكبير وهل هي تسمية جديدة فعلاً؟ ما هي الابعاد التجارية والاقتصادية والنفطية تحديداً التي تجعل من هذه المنطقة مسرحاً لأطماع الدول الكبرى؟
- ما فلسفة التكتلات في عصر العولمة؟ ما ضروراتها؟
- ما هو المقصود بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير"؟ ما هي الخلفيات والأحداث التي تقف خلفه؟ وما هو الإطار العام لهذه المبادرة، وعناصرها وآلياتها، وأولوياتها؟ كيف يمكن لمشروع واسع أحادي الجانب من هذا النوع أن يتحقق؟ ولماذا تتلاحق تصورات فرنسا والمانيا حول الشرق الأوسط الكبير مع انهما لم تشاركا في غزو العراق؟
- ما المقصود بتداعيات المبادرة وانهياراتها أمام ردود فعل الدول العربية والإسلامية؟ كيف نحول دون توليد صراع دولي جديد بين الشرق والغرب من قلب المبادرة؟
- ما هي الآفاق الفعلية للمبادرة وهل يستقيم إصلاح وتطوير نظم ومجتمعات باعتماد افكار مستوردة مفروضة من الخارج؟
- لماذا تبدو المبادرة مستحيلة؟ ألأنها تحاول نسج إسرائيل في الثوب الأوسطي فقط، أم لأنها تحمل مجموعات من الافكار والرؤى النخبوية العربية الأميركية وتحتاج إلى قرون لترجمتها، أم لأنها تبقى مسائل ومشكلات غربية يتم اسقاطها على المجتمعات العربية والإسلامية؟
تعتبر هذه الاسئلة المطروحة على سبيل المثال لا الحصر، نماذج لسلسلة من المشكلات والمسائل الطارئة والغامضة والتي يصعب تحديدها ولو مرحلياً، خصوصاً وأنها تقع في منطقة بالغة التحرك والتغيير، الأمر الذي يفرض تغيراً مستمراً في الأفكار والطروحات، وتعديلات لا تعرف الثبات في النصوص.
وعلى الرغم من هذه الصفة "الرملية الرخوة" الصحراوية في المبادرات والخرائط الكثيرة، نسوق مجموعة من العناوين الكبرى التي تشكل هيكلية البحث في المبادرة الأميركية:
أولا: العرب بين الأمة والشرق الأوسط.
ثانياً: خلفيات مشروع الشرق الأوسط الكبير وأبعاده.
ثالثاً: قراءة هادئة مختصرة لمشروع الشرق الأوسط.
رابعاً: تداعيات الورقة المستحيلة
بالإضافة إلى خاتمة حول تحولات أرض العرب في صراعات الوثائق.
أولاً: العرب بين الأمة والشرق الأوسط
لن نناقش في هذا المجال مفاهيم الأمة في تكوينها التاريخي([4]) ومدى ارتباطها بالقومية والوطنية والدولة والدين واللغة والجغرافيا والعلاقة في ما بينها كلها، لكننا سنركز مسار الخط البياني في استخدام الأمة العربية وتراجعه أمام تقدم ما يعرف بالشرق الأوسط الذي يعني في أبعاده السياسية مرادفاً نقيضاً هو "إسرائيل". ويلحظ بسهولة أن عدداً كبيراً من المعطيات يعمل على خرط "إسرائيل" ودمجها فعلياً في المنطقة مقابل سلخ الصفات القومية والعروبية عن العرب. ويقتضي تناول العرب وفهم معاني توسطهم بين الأمة والشرق الأوسط الكبير أن نقدّم ملاحظات أربع بالغة الأهمية:
1- تقدم «إسرائيل» في نصوص العرب
كان مصطلح "إسرائيل" محرماً في نصوص العرب وخطب زعمائهم ووسائل إعلامهم المكتوبة. ويكفي استرجاع هذه النصوص لتلمس إصرار العرب على المصطلح الطبيعي المعروف بـ «الأراضي المحتلة أو فلسطين المحتلة أو فلسطين» منذ العام 1948 حتى الثمانينات، حيث حلت مرحلة ثانية راح العرب يكتبون فيها مصطلح «العدو أو المغتصب الإسرائيلي» بين قوسين سقطا في مرحلة ثالثة ومعهما سقطت مجموعة من الصفات التي كانت تنعت بها «إسرائيل» وراح العرب في مرحلة رابعة يكتبونها في نصوصهم واحياناً يسبقون المصطلح بتعبير دولة فتصبح دولة «إسرائيل» يضعونها بين مزدوجين إشارة إلى عدم الاعتراف بها([5]).
في المرحلة الخامسة نزعت الكتابة العربية القوسين من حول كلمة «إسرائيل» وصارت حاضرة في نصوصنا دولة مثل باقي الدول الاخرى في العالم، تمهيداً للمرحلة السادسة التي ترسخت مع اتفاقية كامب ديفيد وما اعقبها من تداعيات ومتغيرات على المستويين العربي والعالمي.
بدت إسرائيل منذ توقيع هذه الاتفاقية([6]) واقعاً مادياً قريباً محققاً مع اكبر عاصمة عربية بعدما تحقق لغوياً وإعلامياً. وعلى الرغم من ردود الفعل التي كانت عسكرية من قبل العرب تجاه "إسرائيل" وتحولت في ربع قرن لتقتصر عل الممانعة والمراهنة على الفروقات الديموغرافية في النمو السكاني بين العرب و"إسرائيل" كحّل في الصراع، واهن بالطبع، فإن احتلال العدو الإسرائيلي واجتياجه لجزء من لبنان، وخصوصاً العاصمة بيروت، أظهر بعض العرب متأهبين للواقع الجديد. وهنا «انفتح الكلام العربي مجدداً على ظهور حيز كبير من التواطؤ والانهيارات بين العرب والعاملين في الخفاء والريبة والمنخرطين في النضال»([7]).
هكذا نرى إلى الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء مجموعة من التحولات اللغوية والتداعيات العربية في فترة ربع قرن. فمن فلسطين إلى غزة وأريحا نشهد طرائق انزلاق الكيان الإسرائيلي «خلسة»، حرباً وسلماً في الاذهان والنصوص وعبر مجمل الوسائل المتاحة والممكنة، وخصوصاً غير المباشرة، ووفق ميادين وخطط الإعلام الكثيرة الخفية التي يتقنها العدو ويبرع فيها([8]).
وبدأ أطراف الصراع يغرقون تدريجياً في خرائط جديدة وتسميات متعددة، وبدا العرب منقادين في مجملهم إلى مفاوضات السلام وفق منطق الاستفراد أو الاستقواء الإسرائيلي الذي يؤدي إلى الاستفراد طوعا، تصاحبه ضغوط أميركية اقتصادية وسياسية. وبدت ملامح السلام نافرة وفق المقاييس «الإسرائيلية» أمام تراجع العرب وتفرقهم وصراعاتهم.
المفارقة الخطيرة في «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، موضوع «بحثنا»، ليس تقدم إسرائيل في نصوص العرب، بل تمهيده لظهورها في نصوص المبادرة جزءاً أساسياً من دول الشرق الأوسط، وخارج أطر الصراع المستمر بينها وبين الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل جزء أساس في المبادرة.
2- تراجع القومية العربية
يقابل التقدم«الإسرائيلي» للإنخراط في منطقة الشرق الأوسط تراجع فعلي في الحضور العربي، بل غياب خطير لاستخدام المصطلحات القومية
الوحدوية مثل «الأمة العربية» أو «الوطن العربي» أو «القومية العربية» والتي
تبدو مادة تراشق بين النخب العربية من على شاشات الفضائيات العربية. الأخطر من ذلك كله ان هذا التراجع يأتي مصحوباً بتعزيز الخطاب العربي المستغرب لمصطلح الشرق الأوسط الجديد، حتى ان بعضاً من منظري البنك الدولي من أصول عربية حّرضوا على انشاء قسم يعرف بالـ Menarégion أي الاختصار لمنطقة الشرق الأوسط([9]) وهو ما بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحاً، أيضاً، في الجامعات والخرائط والشاشات العالمية الأميركية والعربية.
يرشح هذا التوجه الجديد من الضرورات التي اقتضتها العولمة حيث انحسرت الدول في حدودها التقليدية وروابطها القومية وانكسار مصطلح العالم الثالث وذوبانه في تجمع عالمي كبير يقابله العالم الأول أو دولة العولمة أي الولايات المتحدة الأميركية.
3- الشرق الأوسط مسرح صراعات القرن الـ 21
منذ أن آلت الحرب الباردة إلى الإنتهاء، تحولت منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من أوروبا، مسرحاً زاخراً بالعلاقات الدولية المتأزمة. كانت كل مخططات الصراع الدولي حافلة بتوقعات الاجتياح السوفياتي لأوروبا الغربية، الأمر الذي كان يستوجب دفاعاً اميركياً عنها، لكن بعد سقوط جدار برلين وأطروحة "صدام الحضارات" وزوال الاتحاد السوفياتي، برز كلام جديد عن «مواجهة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وبأن الشرق الأوسط خط التماس بين الحضارتين... وبالرغم من أن كثيرين لم يوافقوا على أطروحة هاننغتون في «صدام الحضارات» وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون آنذاك، فإن هذا الفكر كان يعكس تطلعات بعض النخب الأميركية حول هذه المنطقة التي اعتبروها مصدر تهديد لهم ومصدراً للموارد الأولية"([10]).
تخطت المسائل، إذاً، البعد اللغوي، على الرغم من أن اللغة والتعابير ترشحان من الفكر والمضامين، وتتم صياغتهما عن طريق الفكر، فبانت عملية انتاج المصطلحات وتوليدها نوعاً من تجسيد مشاريع وأفكار مطروحة لتعميمها على بلاد العرب والمسلمين من قبيل الترويج لإعادة تشكيل الأفكار والقناعات والأوطان وبشكل فعال قادر على صوغ مستقبل البلدان العربية والإسلامية بأقل قدر ممكن من الخسائر والممانعة.
وباختصار يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية جهدت في تاريخها المعاصر للتخلص من الخطر الأحمر الشيوعي، متكئة في ذلك على منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً المسلمين فيها، لتطويق البلدان الإلحادية ونسفها من الداخل، مع الاحتفاظ بكل الوسائل التي تؤمن لها تفجير المسلمين الدائم من الداخل، وذلك عبر تعزيز الأنظمة الجاهزة (préfabriquées). وعمدت أميركا في الوقت نفسه إلى مهادنة الخطر الأصفر الصيني من دون أن يكون الصراع واقعاً، بل مؤجلاً بينها كدولة قائمة عالمياً وبين الصين كدولة قادمة عالمياً ولو من الباب الاقتصادي المضبوط إلى حد كبير.
ماذا تفعل الولايات المتحدة اليوم؟ تهاجم «الخطر” الأخضر الإسلامي من وجهة نظرها، إذ توصمه بالارهاب. تريد النجاح حيث اخفق الاتحاد السوفياتي من قبل، لكن المغامرة الأميركية في أفغانستان صعبة، أو يصعب الوصول بها إلى نهايات محسومة، خصوصاً وأن وعورتها قد شكلت شوكة قاسية في خاصرتي بريطانيا والاتحاد السوفياتي. وقد وقفت دول بالصف تفتح ذراعيها، في الشرق الأوسط، للتحالف الصغير في شمالي أفغانستان كما للتحالف العالمي الكبير.
هكذا أقفلت أميركا القرن العشرين على حرب كان العرب والمسلمون ضحاياها، وافتتحت القرن الحادي والعشرين على حرب لا هوية لها متنقلة غير محددة يبدو العرب والمسلمون ضحاياها وليس لهم فيها سوى الامتثال للأوامر الأميركية والطاعة العمياء لما ترسمه لهم.
ولهذا بتنا نتحسس شروخاً فعلية في بعض مناطق الشرق الأوسط، تشتد وتقوى بين الحكومات الإسلامية والعربية وشعوبها. تنصاع الأنظمة لأميركا، أما الشعوب فترفض الاثنين، وتبدو مجمل الدول أحجاراً تتحرك فوق رقعة شطرنج شاءت أميركا تسميتها "بالشرق الأوسط الكبير".
قد يعكس التردد في الصياغة والتغيير في الطروحات بين المسلمين والغرب الأميركي نوعاً من عدم الوضوح في إيصال معاني التغيير والافكار الغربية المتنوعة. وتبرز المفارقات في نشر خط التغيير الديمقراطي الأميركي صارخة، بين أن تأتي نابعة من حاجات الشعوب، أو مستوردة من أميركا كالمقتنيات، بين أن تأتي نابعة قسرياً أو اختيارياً، في زمن قياسي أو في بطء وتطور طبيعيين. لهذه الأسباب يتبيّن بأن التغيير الأميركي المفروض يترادف مع مجموعة من الصفات السلبية التي تعني التفتيت أو التفكيك والانفصال وانهيار الأنظمة العامة وانتشار الفوضى والتخلي عن الهوية ونسف الثقافات والأديان وغيرها من النوايا التي تستبطنها مشاريع من هذا اللون.
و تترافق هذه المتغيرات في الأسماء والأشكال مع استذكار لخطط التطبيع الخفيّة التي لطالما برزت فيها بصمات العدو الإسرائيلي طيلة خمسين عاماً، وبرز حاداً في ما نفذته وتنفذه الإدارة الأميركية في العراق وقبلها أفغانستان وفلسطين، وما رافقها من تنكيل وخرق لأبسط القواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في ضوء هذا كله، جاء الرد الطبيعي الأولي على مبادرة الولايات المتحدة الكبيرة لشرق أوسط كبير رفضاً قوياً عارماً سرعان ما تمّ ربطه بـ "مشروع شيمون بيريز" عن"الشرق الأوسط الجديد". وبرزت إلى العلن مشاعر القلق والتوجس (مصر، سوريا، السعودية)، أو مواقف الحذر والتروي الهائل الى المطالبة بالحوار مع الأميركيين قبل اتخاذ أي موقف (بعض دول الخليج)، أو الانقلاب الجذري والاذعان (ليبيا) أو المواقف الصامتة من قبل عدد كبير من الدول العربية التي غالباً ما تشعر بأنها محشورة بين المطرقة والسندان أمام أي موقف متعلق بالولايات المتحدة الأميركية أو العدو الصهيوني.
وبشكل عام وبصرف النظر عن الاعتراضات العميقة التي تثيرها أغلبية العرب تجاه السياسات العدوانية الأميركية في بغداد وفلسطين، فإن جزءاً كبيراً من الرأي العام العربي والمثقفين بات يقرّ من على الشاشات وفي وسائل الإعلام أن دخول الولايات المتحدة الى المنطقة سيشكل حتماً عامل تغيير يزيد في كشف الأنظمة وعورات النخب وضيق المعارضين وتبرّمهم من الأوضاع العامة.
لكن النقطة السوداء في كل ذلك المشروع والتي تجعله غير قابل للقراءة الواضحة هي الدور «الإسرائيلي” في ما يحصل في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. هذا ما انعش فكرة المؤامرة مجدداً، باعتبار الولايات المتحدة، بكل قوتها وجبروتها وفلسفاتها في العولمة الإقتصادية الفكرية والثقافية، تهيئ نسيجاً طيّعاً للمخططات الصهيونية، تؤثر بها وتحولها وتسخّرها بطرائق غير مباشرة في سبيل تنفيذ مشاريعها الجهنمية، فبات المشروع مبادرة «شيطانية» غير مقبولة.
فما هو المقصود بالشرق الأوسط؟
ما هي حدوده وشعوبه؟
وما هي المرتكزات الاستراتيجية التي يتفّرد بها والتي تكسبه هذا الغنى التاريخي أو تلك الشهرة؟
4- مساحة مثقلة بالتاريخ
يغطي الشرق الأوسط، في مفهومه الواسع تاريخياً، مساحة شاسعة تصل الى ثمانية ملايين كلم2، تمتد من مصر حتى أفغانستان شرقاً، وفوقها يتوزع ستة عشر بلداً عربياً واسلامياً تتفاوت في أعداد سكانها([11]). فبينما نجد بضع مئات من ألوف السكان يؤلفون دولاً مثل قطر والبحرين، يرتفع عدد السكان في بعضها الآخر الى ما يلامس المئة مليون، مثل مصر وإيران واستراليا.
تعتبر هذه المساحة موئلاً «لموزاييك» شديد التنوع من الأمم والأتنيات والمذاهب، ومحط أطماع قوى ودول غربية كبرى، الأمر الذي راكم فوقها تواريخ موصولة بالرفض والاحتجاج والثورات لشعوب طالما عانت مشاريع التقسيمات والتجزئة. وقد لا يغالي الباحث بالنظر إلى هذه الرقعة الجغرافية الواسعة بوصفها رقعة «puzzele» بازل أو دمية سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين أيادي الدول العظمى، لكنها رقعة تفور بالتاريخ والأحداث.
يمكننا أن نميّز فوق خارطة هذه الرقعة جزءاً تركياً - ايرانياً (ايران، تركيا، افغانستان) وهلالاً خصيباً يجمع العراق والأردن وسوريا ولبنان، وقد زرعت فيه الدول العظمى "إسرائيل" مكان فلسطين وأورثت العالم تاريخاً من الحروب والاشتباكات الانسانية والقانونية، وقد ألهم هذا التشكل المستدير من الدول أفكاراً في القومية والوحدة والعلمانية (انطون سعادة مثلاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي).
ونميز في الرقعة نفسها باقة من دول شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، البحرين، الامارات العربية المتحدة، الكويت، عمان، قطر واليمن) كما نميز مصر في شرقي افريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل حضارياً منذ القدم.
أ - ثقاقات النيل والفرات
هذه البقع الاربع على تنوعّها جعلت من الشرق الأوسط منطقة مثقلة بأحداث التاريخ منذ القرن السابع قبل الميلاد. وقبل ان تتقدم مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في ارجائها الامبراطوريات الأولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين الرابع والثاني ق.م حيث صيغت تلك الحضارات بتلاقي مجموعة كبرى من ثقافات السومريين والساميين والحثيين والحوريين، نضيف اليها ثقافة النيل وخصوصاً بعد توحد مصر الفرعونية منذ الألف الثالث ق.م، الى الامبراطورية الأشورية التي أرست معالمها الحضارية خلال الألف الأول قبل المسيح([12]).
وترسخ النيل والفرات كرمزين تنبع منهما الثقافات والحضارات يتكاملان، ومنهما تنهل شعوب وحضارات موزعة فوق الكرة مالا يستنفذ من المعارف والأسرار والثقافات.
وقد توّجت مياه النهرين تلك الحضارة العربية - الإسلامية التي أرست ملامحها أيضاً عن طريق الانتشار الديني ومنبعه الوحي، مستندة الى لغة العرب وخصائصهم في التاريخ (660 - 1258 م).
وكان يجب انتظار القرن السادس عشر الذي بسطت منذ بدايته الامبراطورية العثمانية سلطاتها على مجمل هذه الرقعة باستثناء بلاد الفرس وأفغانستان والقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية.
لم تعرف تلك المنطقة هندسة سياسية معاصرة الا مع انهيار الامبراطورية التركية العثمانية ونشوب الحربين العالميتين، حيث راحت الدول تأخذ طرقها تباعاً نحو التحرر ومن ربقات المستعمرين. فقامت دول وأمم قديمة حديثة مثل مصر وايران، الى دول حديثة جاءت حدودها ثمرة توافق مصالح بين الدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا.
وباختصار، بقيت الحدود مثاراً كبيراً لنزاعات داخلية بعد سايكس - بيكو حيث تجزأت المنطقة، وكان خلق «إسرائيل» نوعاً من اضافة موقد إضافي دائم الاشتعال لنزاعات أخرى مستمرة([13])..
ب- بقعة التشابك بين الشرق والغرب
بالاضافة الى الشعوب والثقافات التي شكّلت غنى الشرق الأوسط، فإنه منطقة واقعة على جغرافيا التماس بين أقصى الغرب والشرق على السواء، وقد سمح هذا الموقع الجغرافي المميز لشعوب تلك المنطقة القدرة على التواجد الطبيعي على الطرق التجارية التي توصل اقتصاد الغرب بأسواق الشرق ومنتوجاته، وهذا ما منح تلك البقعة قدرات تفاعلية خلاّقة مع الشعوب الأخرى والأقليات الإثنية والأمم المتنوعة، حيث كان من الطبيعي أن يصبح الشرق الأوسط، ليس ممراً وطريقاً، بقدر ما هو المنبع للتنوع اللغوي والثقافي والحضاري والعادات والتقاليد، والمصهر لمجموعات من الشعوب والأديان.
هذا الغنى الطبيعي السماوي يرفله غنى من نوع آخر، وهو أرضي كبير جاء بتفجّر البترول([14])، وهما اللذان منحا تلك البقعة الفريدة من الكرة هذا القدر من الاهتمام. وتحفل المكتبات بالتفاصيل والقصص والدراسات المرتبطة بالشرق الأوسط البترولي الذي يشكل بهذا المعنى محط أنظار العالم. نكتفي بالاشارة في هذا المجال الى أن دولاً معاصرة ثلاث تلعب في ميدان سلامة وتصدير النفط أدواراً كبيرة، هي المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، مصر للمراقبة عند السويس وحماية ناقلات النفط، وتركيا محطة الترانزيت للنفط العراقي، بينما تلعب السعودية الدور الأكبر بالطبع لتأمين ضخ بترولها مع الاشراف على مبيعات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط.
ج- المعطيات الجيوسياسية الجديدة
فجّرت الحرب العراقية الايرانية (1980 - 1988) ذاك الاحتقان الذي كان سائداً على ضفاف الخليج بين شعبين تأسسا على الصراع عبر التاريخ، وخصوصاً في أعقاب توطيد الثورة الإسلامية في طهران وطرد الشاه (1979). ولطالما شكّل شط العرب وكازاخستان حافزي الصراعات بين البلدين منذ القرن الثامن عشر، وكان الفرات (204 كلم) النهر الطبيعي الذي يرسم الملامح الحدودية بينهما على امتداد 105 كلم. يمكن القول انه نهر قديم تاريخي، سياسي وثقافي كان يفصل بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية أو بين عالمين عربي وآري كما بين طائفتين اسلاميتين سنية وشيعية، ولقد حوّله البترول الى مجرى مائي تعقد فوق مياهه التبادلات الدولية في ميادين الطاقة: عبادان على ضفته اليسرى حيث تقوم أضخم مصافي بترولية في العالم، والبصرة والفاو على ضفته اليمنى تشكلان رئتي الاقتصاد العراقي ([15]).
وقد لعب رسم الحدود فوق صفحة النهر شاغلاً أدى الى مجموعة تسويات واتفاقيات (ومنذ التواجد التركي في منتصف القرن السابع) بين الفرس والامبراطورية العثمانية ومن ثم بين العراق وايران، كان آخرها اتفاق الجزائر (1975).
وخرجت الدولتان الايرانية والعراقية منهكتين في العام 1988 من الحرب وبرعاية الأمم المتحدة، لكن العراق المديون، المدجج بأسلحة روسية وغربية ومساعدات عسكرية متنوعة وكبيرة أظهرته قوة أساسية لا يستهان بها في الخليج، تكاد تهدد «إسرائيل»، وتستعيد مجد إيران الشاه في المنطقة، وكان صدام حسين يتطلع الى وضع تلك الحركة النفطية في الرقعة المتوسطية تحت لحظه ومضاعفة مخزونه، مما دفعه الى غزو الكويت (2 آب 1990). ولأن المصالح الغربية باتت في الميزان الدقيق، كان التحالف الكبير الذي ضم 29 بلداً أرغم وبواسطته، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، العراق على الانسحاب من الكويت ووقف اطلاق النار (في 26 شباط 1991)، وهذا ما عرف بحرب الخليج الأولى او "عاصفة الصحراء".
مع «عاصفة الصحراء» تحولت رقعة الشطرنج الشرق أوسطية سياسياً واستراتيجياً، واهتزت من دون متغيرات كبرى في الترسيمات الحدودية، وتحركت أحلام الشيعة في جنوب العراق، والأكراد في شماله، بعد الهزيمة العراقية وانكفاء صدام الى داخل أراضي العراق، من دون ان تفضي الأحداث الى أي اعادة نظر جغرافية.
هناك معطيات أساسية برزت على مسرح الشرق الأوسط وباتت في دائرة الضوء الساطع بعد هذه الحرب العاصفة:
1- ظهور التفوق الأميركي المطلق في المنطقة تأسيساً لمستقبل رقمي سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى ثقافي ولغوي.
2-انقسام الدول العربية بين من هو في ركب التحالف ومن هو خارجه، الأمر الذي ساهم في تزكية التجاذبات والاتهامات بين الاطراف الاقليمية.
3- اما ايران التي غلبت الحيادية على موقفها من «عاصفة الصحراء» فهي لم تنس امنية اعادة لعب دور شرطي الخليج التي دفعتها استحالة تحقيقه الى قيادة سياسية فاعلة في آسيا الوسطى وفي بلاد القوقاز.
4- جهدت المملكة العربية السعودية لإظهار دورها في مراقبة سوق النفط في المنطقة، لكن أوضاعها الديمغرافية والعسكرية جعلتها تظهر وكأنها مرتبطة أمنياً وأكثر من أي وقت مضى بالحماية الأميركية.
5- بدت سوريا البلد الاكثر فطنة وحذراً في إيجاد العبر المفيدة من الصراع، وعلى الرغم من مشاركتها في التحالف، فإن نجمها راح يسطع وحيداً تقريباً على مسرح الشرق الأوسط، وتمكنت من تقديم نفسها قوة اقليمية كبرى وازنة وموزونة ويحسب لها ألف حساب، وبلغت وتيرة التنسيق فيها مع لبنان أرفع مستوياتها واكثرها جدوى وقوة.
6- لقد أسقطت «عاصفة الصحراء» أسطورة قائمة منذ 1967 إسمها العراق. ولم تعد الأراضي الفلسطينية على الاقل بالنسبة «لإسرائيل» تشكل "العمق الاستراتيجي" القديم المشهور في وجهها، وجاء اعلان المبادئ الذي وقّع في واشنطن (في 13 ايلول 1993) القائل بالإدارة الفلسطينية الذاتية لقطاعي غزة والضفة الغربية محفوفاً بصعوبات تطبيقه بل باستحالته، وذلك منذ عودة ياسر عرفات الى غزة في تموز .1994 والسبب ان الانتفاضة الفلسطينية التي ابتدأت بالمقلاع تسارعت نحو خطر اقتلاع الفلسطينيين من فلسطين أمام وحشية السياسة الإسرائيلية ولاسيما تلك التي يمارسها شارون حتى اليوم. وبقيت مسألة انشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية ملفاً مفتوحاً على الدم، وعلى الرغم من أن الأردن قد وقع معاهدة سلمية مع إسرائيل (في 26 تشرين الاول 1994) فإن مسارات مدريد([16]) بانت معطلة، ومقولة الأرض مقابل السلام بقيت شعاراً لا ينطبق أبداً مع واقع الممارسات الإسرائيلية التي اسقطت قداسة حدود 1967 بالنسبة للعرب وللعالم، وعزّزت الاستيطان وزجّت بآلاف المعتقلين في السجون وبات سقوط الضحايا والشهداء قوت الأراضي المحتلة اليومي، والدوائر الكبرى تهمس "بالترانسفير" على صعوبته.
7- وفي التقدير إن توقيع أوسلو (19 ايلول 1993) كتتويج لمفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل هو المحصلة لكل هذه الممارسات، أو إنه جاء «محصّلة لتراكم الهزائم والاخطار والانتكاسات العربية والفلسطينية في ظل انفراد الولايات المتحدة الأميركية في السيطرة على العالم» ([17]).
وفي الخلاصة لم يكن هذا التأرجح العربي بين الامة وانفلاتها في مساحات واسعة كالشرق الأوسط أمراً سلساً للقيادة العربية المتشظية في أكثر من اتجاه، بل كان نتيجة طبيعية لتراكم الهزائم وتضافر المخططات وتسارع الأحداث الكبرى التي عجّلت في صوغ مشاريع جديدة للشرق الأوسط او سحب مشاريع قديمة من دون تعديلات كبرى عليها.
فما هي الاحداث الجديدة التي أظهرت لنا مشروع الشرق الأوسط الموسّع؟
ثانياً: خلفيات المشروع وأبعاده
تذكرنا المبادرة الأميركية التي تطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير ببدايات القرن الماضي، عندما راحت الدول الكبرى تنظر الى الامبراطورية العثمانية بوصفها "الرجل المريض" الذي نضج زمان اقتسام أراضيه وخيراته، بما فيها البلاد العربية التي شكلت اجزاء من تركته آنذاك.
وهكذا حملت تلك المرحلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية متغيرات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، اذاً، واقتسمها الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) بعدما أبرموا عدداً من الاتفاقات، خصوصاً سايكس - بيكو (1916) ثم مؤتمر سان ريمو الذي رتّب الأوضاع القانونية في اقتسام لبنان وسوريا وفلسطين وأجزاء من العراق. واذا كانت اوروبا ممثلة بسايكس وبيكو قد وضعت حجر الأساس للبناء السياسي لمنطقة الشرق الأوسط مجزءاً في اعقاب الحرب الكونية الاولى، فإن أميركا ممثلة بجورج مارشال ([18]) جاءت تضع البنيان الاقتصادي للعالم بدءاً من اوروبا وفي أعقاب الحرب الكونية الثانية.
وها هي تخرج من الشراكة فتبدو "مارشالاً" جديداً تضع يدها على المنطقة، وتقدم مشروع الشرق الأوسط الكبير فتعتبره في الفقرة الاولى منه انه «ضرورة للعالم لأنه منطقة تشكيل فرصة فريدة للمجتمع الدولي".
إننا أمام دولة عالمية تعيد صياغة المنطقة وتحديدها وفقاً لعلاقات جديدة لا تحترم خصوصيات الأوضاع السياسية لبلدان الشرق ولا تبالي بالأبعاد الخطيرة للصراع العربي - الإسرائيلي المزمن.
قد يكون مفيداً القفز فوق المكّونات التاريخية القديمة المتراكمة التي أوصلت الى هذا المشروع، والاستغراق في ربطه أكثر بمجموعة من المكّونات الأقرب في أحداثها الى زمن المبادرة التي سرعان ما وضعت مشروعاً خاضعاً لنقاشات وتجاذبات طويلة في المستقبل.
فما هي هذه المقومات والاحداث الجديدة؟
1- "مصيبة" 11 ايلول 2001
يشابه هذا الحدث «المصيبة» التي لحقت بالقرن الواحد والعشرين، لأنه يشابه التاريخ الميلادي الثاني بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، يمكننا ان نؤرخ لما قبله وما بعده. فقد سقطت معه مثلاً رمّة واحدة تلك الفترة الانتقالية التي كانت قائمة بين انهيار معالم الحرب الباردة وتكوّن ملامح النظام العالمي الجديد.
فمع انهيار البرجين في أميركا الى مبنى في البنتاغون، وانهيار برج بابل في بلاد ما بين النهرين حيث تبلبلت الألسن واللغات في ما بين شعوب الأرض، تشابه كبير. لم يصل أهل بابل (العراق القديم) إلى السماء لكن أميركا هبطت بعد تلك المصيبة من عصرها الفضائي، وكأننا كنا نعاني وقع سقوط العولمة الذي التي لم تنضج بعد، ولم يهضمها الكثير من شعوب الشرق الأوسط، او انهم لم يستوعبوا مراميها وأفكارها الكثيرة، وبهذا التبست مجمل الأفكار والنظريات التي كانت تفخر أميركا بتقديمها الى الشعوب وكأنها تشابه المطر ولا يمكن التحكّم به.
قد لا نعرف حجم الأفكار والتحليلات والاسقاطات والأضاليل الكثيرة والأسرار المتخفية تحت ركام البرجين من دون اشهار نقطة دم واحدة في وجه العالم. كان يمكن التصور بأن وراء نضوب الدم الأميركي أنهار من الدماء العربية والإسلامية تنتظر في آفاق الشرق الأوسط بالاضافة الى رفع مقولة القرن أن لا فعالية سياسية في عالم اليوم خارج الفعالية العسكرية «الرقمية».
وقد صاحب هذه المقولة توجس دولي ينذر بهويات جديدة وتحولات كبرى قد تطول أو تقصر طبقاً للحروب المفتوحة. فقد أحدث الهجوم على أميركا انقلاباً جذرياً شاملاً في سياستها العالمية وخصوصاً الشرق الأوسطية منها، وأظهر الأميركيون مواقف مفرطة الحساسية تجاه مشاكل الأمن القومي والعالمي، وقد استقر في يقينهم أن الشرق الأوسط هو أحد أهم مصادر التهديد الرئيسية، ان لم يكن المصدر الأول لتصدير «الارهاب» وتهديد الأوضاع الأمنية في العالم.
إنها «مصيبة» لكنها المصيبة الأكبر في العالم كما أبرزتها أميركا، فالحادث يحتل القرن الراهن على المستويات العسكرية والسياسية والمالية والأمنية والثقافية.
أليست الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأكبر في العالم؟
يكفي مراقبة اسمها الطويل وأبراجها الشاهقة الأكبر في العالم، وسياراتها وبرّداتها (ثلاجاتها) وجاداتها وقوة الـ bits في حواسيبها، لتكون مصيبة 11 ايلول أيضاً «المصيبة» الدولية الأكبر، أيضاً، في العالم. والملاحظة الطريفة التي تؤكد بأن الدول مثل الافراد يسقطون أحجامهم في تطلعاتهم وافكارهم ورؤاهم، تجعلنا ندرك سلفاً أن المشروع المسمى بـ «مشروع الشرق الأوسط الكبير» هو كبير الى درجة لا يمكن تصّورها، وتكفي مقاربة تفاصيله لندرك مدى كبر «المصيبة» الأميركية التي تشكل حافزاً واضحاً لتغيير معالم الشرق الأوسط بل العالم كله، وكأن الفكر العالمي اليوم، بهذا المعنى، أمام أميركا دولة العولمة من ناحية، والعالم كله من ناحية ثانية. وبهذا تسقط تسميات مثل العالم الثاني أو الثالث في توصيف الدول اذ تبدو أميركا وحيدة والعالم كله ثالثاً ([19]).
ليس هناك من شكوك في ان الإدارة الأميركية التي تتقن الحفاظ على مصالحها الحيوية الواسعة الأطراف، لم تتردد يوماً في التذكير بها في الشرق الأوسط، وهي تشعر منذ الحادي عشر من أيلول على الاقل بأن النظم العربية المشرقية والإسلامية خصوصاً، والتي رعت انشاءها وساهمت كثيراً في تعزيز سيطرتها وبقائها، قد أصابها الوهن ولم تعد تقوى على حمل المسؤوليات التي كانت الأسباب الأساسية في تقديم الدعم الشامل لها.
ويأتي في رأس هذه المسؤوليات تحقيق الاستقرار والسلام الاقليمي والعالمي، والرد الجزئي على حاجات مجتمعاتها المحلية حتى يمكن ضمان الأمن والاستقرار فيها. فقد خسرت هذه النظم معركة الاستقرار والسلام الاقليميين ولم تنجح في ضبط القوى والمنظمات الأهلية المقاتلة ضد إسرائيل، ولم تقبل بتسوية عربية إسرائيلية تضع حداً لمناخ المواجهة والعنف في المنطقة، وتفتح الطريق أمام ما يبدو حملة اخضاع وتهدئة شاملة لمجتمعات المنطقة وشعوبها. والمفارقة في المنظار الأميركي دوماً أن عدداً من هذه الانظمة المتضامنة في اطار الجامعة العربية لا تتورع هي نفسها عن دعم بعض منظمات المقاومة «الارهابية»، وتشجع بالتالي على العنف وزعزعة الاستقرار الاقليمي والعالمي.
والواقع ان الشعور العميق بولادة نمط تهديدات جديدة وخطيرة على الأمن الأميركي والعالمي، لم ينشأ بسبب من هذا الهجوم النوعي من الناحية الاستراتيجية، ولكن أكثر من ذلك بسبب ارتباطه بمنظمات اسلامية كانت تعتبر حتى ذلك الوقت احدى أدوات الصراع السياسي الرئيسة التي تستخدمها الولايات المتحدة نفسها، سواء اكان في ضغوطها السياسية على الأنظمة العربية، أم في مناوراتها الاستراتيجية الكبرى، كما في أفغانستان، وقبلها في «تحويق» الاتحاد السوفياتي والمنظمة الاشتراكية، تسهيلاً لبذر الديمقراطية في أرجائها ومحاولة إلحاقها بركابها.
وفقاً لهذا التحليل الذي يصب بالتالي في فهم احد أهم مقومات المشروع الأميركي، موضوع البحث، لم يحمل هجوم 11 ايلول هزيمة عسكرية خطيرة جداً للولايات المتحدة (مع ان هزائمها جاءت من التحليلات والمعلومات الخطيرة التي لوّثت سمعة العديد من رجال الإدارة الأميركية المتواطئين في ما حصل)، ولكنه أفقدها حليفاً تاريخياً وعالمياً استثنائياً. وبقدر ما أظهر هذا الهجوم في مستوييه أخطاء الحسابات الاستراتيجية الأميركية السابقة، فقد خلق لديها، بالفعل، تحديات جديدة كبرى لم تكن منتظرة ولا مناص من مواجهتها.
أهم ما في 11 ايلول تلك الضربة النفسية القوية التي أورثتها للولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتباهى في الشرق الأوسط واوروبا والعالم بوصفها القوة الوحيدة من دون حلفاء في عالم تسيطر عليه عقيدة القوة والنزوع الى السيطرة.
كان الشرق الأوسط (الإسلامي) البقعة التي منها انطلقت الضربة العسكرية القوية التي ألّمت بالولايات المتحدة وأظهرت هشاشة أنظمتها الدفاعية الرقمية، ولذا كان من المتوقع أن تختاره الإدارة الأميركية كموقع أول تصفّي حساباتها معه. وهو الموقع الذي يتجاوز أي منطقة أخرى من العالم تشعر فيه الولايات المتحدة بأن اصدقاءها وحلفائها قد انقلبوا عليها فيه، وانها لن تتمكن من استعادة هيبتها وصدقيتها وكرامتها من دون ان تعيد هؤلاء الذين خدعوها أو خانوها الى «الطريق القويم».
ومما عزز هذا المكَّون تقارير الأمم المتحدة التي أظهرت بالفعل الحجم الهائل لهدر الموارد والطاقة والفرص في منطقة الشرق الأوسط، مما وضع بين أيدي الإدارة الأميركية مادة دسمة تبرر بها غضبها على هذه الأنظمة او حملاتها عليها.
بهذا المعنى، راحت الإدارة الأميركية تصوغ للنظم العربية والنخب الحاكمة صورة سلبية من ناحية يقترن فيها الاستبداد بالخديعة والنفاق وما يمثله من انعدام الصدقية والاخفاق الخطير في نمط الإدارة والمسؤولية، ومن ناحية أخرى التحضّر لصياغة مشاريع تعيد النظر في كل شيء لإعادة بناء الشرق الأوسط من الصفر.
2- غزو العراق
جاء غزو العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، كذريعة لم تستقم، المكّون الثاني البارز في اعادة رسم الشرق الأوسط. وما احتلال العراق وتدمير دولته ومؤسساته وبناه التحتية الاقتصادية والثقافية سوى التعبير الواضح عن ارادة الانتقام التي تحكّمت بالقيادة الأميركية في منتصف العام 2003، وتصفية الحسابات مع العرب المسؤولين في نظر الإدارة الأميركية عن انتاج منظمة القاعدة، وغيرها من المنظمات الارهابية. وعلى هذا المستوى الانتقامي كان لا يمكن البحث إلاّ عن ردود فعل تقود الى تعاظم تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. لكن الإدارة الأميركية كانت تدرك ان وراء أساليب الانتقام تلك مشكلة حقيقية شرق أوسطية، وأن ضمان مصالحها لا يتحقق الا بتغييرات أساسية على مستوى أنماط الإدارة والحكم، ومستوى اخراج المنطقة من عزلتها الدولية وركودها الاقتصادي والاجتماعي.
هكذا وجدت الولايات المتحدة أمامها أزمة سياسية عميقة راحت تقوى بفعل ازدياد مخاطر الأصوليين على السلطة في اكثر من بلد عربي.
وازداد ادراك الإدارة الأميركية للمخاطر مع تنامي اخبار تعميم الفساد الذي كانت تلح عليه المؤسسات الدولية، كاشفة أعطال النظم العربية. وقد نتج عن ذلك بالطبع، توليد سحر جماهيري انصرف نحو المعارضات الإسلامية والحركات الباحثة عن الأصول والقيم الدينية وأساليب المقاومة التي تذكّيها وسائل الاعلام الغربية، وكان يساعد في ذلك بالطبع الانحلال الفاضح والمتفاقم لمؤسسات الأنظمة القائمة.
وشعرت الدول بأنها تدفع ثمن انهيار حدودها في عصر العولمة الأميركية بعدما سبق لها ان دفعت أثمان بناء ورفع الحدود في ما بينها كلها، بهذا المعنى انصرفت الإدارة الأميركية الى بلورة استراتيجية جديدة ذات أطر ثلاثة:
أ- شن الحرب على ما أسمته الارهاب، وهي تقصد به الحركات الإسلامية التي تشكل في رأيها الخطر الرئيسي على الاستقرار في المنطقة والعالم.
ب- العودة الى صياغة مشاريع تهدف الى اصلاح النظم القائمة في الشرق الأوسط.
ت- اعادة ايقاظ طريق التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بعدما جرى هجره لفترة ليست قليلة.
وكانت الإدارة الأميركية تأمل من هذه الاستراتيجية المثلثة الأبعاد، وما زالت، وضع حد للتدهور القائم في الشرق الأوسط، ثم ربطه بالاقتصاد الأميركي، بحيث يمكن التغلب على مخاطر القطيعة المحتملة معه في المستقبل اذا ما تركت الامور على غواربها.
وبان، من هذه الزوايا الاستراتيجية، ان مصلحة تكاد تتحكم بالولايات المتحدة مختصرها إحداث تغيير ملموس في المنطقة حتى تقطع الطريق على أي بديل آخر يهدد مصالحها، سواء أكان ديمقراطياً أم اسلامياً.
لكن السؤال الذي يطرح هنا هو مثابة مجموعة أسئلة:
هل تستطيع الولايات المتحدة إحداث هذا التغيير؟ وما هي مصلحتها فيه؟ وهل لديها الوسائل الفعلية المقنعة لإحداث هذا التغيير؟ وكيف لها ان تجمع بين قدرتها على التغيير وعدم الرغبة في المنطقة على المضي في هذا التغيير، خصوصاً بعد تلمس تداعيات فلسطين والعراق ونتائجهما؟
نجد الاجابة في ما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الأميركية جيمس ولسي من أن «الولايات المتحدة ستعمل على تغيير أنظمة الحكم في جميع الدول العربية وعلى رأسها السعودية ومصر، بعد الانتهاء من العراق... فالدول العربية تنقسم الى قسمين: إما ديكتاتوريات مطلقة أو أنظمة لأسرة محددة تتولى الحكم بأسلوب بيروقراطي متخلف لا يترك أي مجال للمشاركة السياسية». وقال «إن الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على المنطقة بدءاً من العراق، لا ترتبط بالضرورة بأسلحة الدمار الشامل، بل هي اساس لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي» ([20]).
ولو دفعنا الاجابة عمقاً لأمكننا القول ان منطق الجغرافيا السياسية يقود الى احتواء التهديد الذي يخيم على النظام الأميركي، مما يستدعي عدم ترك مركز العالم الحقيقي الذي هو الشرق الأوسط، يفلت من يدها.
وهذا ما جعلها تمسك بخناق العراق باعتباره الحلقة الأضعف بعد أفغانستان ومدخلاً لتغيير خريطة الشرق الأوسط وقيام امبراطورية جديدة تمنع التقاء اوروبا والصين عبر أوراسيا، كما ان غزو العراق واحتلاله يأتي تطبيقاً للهدف الاستراتيجي الاساسي والقديم للولايات المتحدة القائم على ضرورة التحكم السياسي بالموارد العالمية منذ صار التزود بالسلع المختلفة والرساميل أولوية مطلقة.
إعداد: د. نسيم الخوري
استاذ جامعي، المدير السابق لكلية الاعلام والتوثيق، الجامعة اللبنانية
في التسمية
لا يحمل مصطلح "الشرق الأوسط" المعنى نفسه بالنسبة إلى الباحثين والسياسيين، وهو يبدو وكأنه مصطلح متحرك غير مستقر بعد، وربما ما عرف الإستقرار، بالمعنى التاريخي وغيره من المعاني، لا في اللسان الغربي ولا في الترجمات العربية المرادفة له، ولا حتى في أبعاده الجغرافية ومفاعيله وتداعياته فوق رقعة الجغرافيا الآسيو-أفريقية.
فمن "الشرق الأوسط" ويقابلها في الانكليزية "الميدل إيست" إلى "الشرق الأوسط الكبير" أو "الأكبر" و"الواسع" و"الأوسع" كما نقرأ في التسميات الأميركية المستجدة، مروراً «بالشرق الأدنى Moyen orient" أو «المتوسطية الأوروبية» وفقاً للتسميات الفرنسية والألمانية([1])، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتلتقي أو تتباين الأفكار والرؤى الاقتصادية والثقافية لمنطقة الشرق الأوسط، وتبدو الجغرافيا الخاصة بتلك المنطقة مفتوحة لتلقف الخرائط والمشاريع والمبادرات، فتتسع لتضم الدول العربية وتركيا وإيران، و«إسرائيل» ودولاً متعددة من آسيا الوسطى ليست محددة بعد، أي مجمل الدول العربية والإسلامية، أو تضيق لتقتصر على عدد محدود من هذه الدول.
وليس أبلغ من قول الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى من أن "السماء تمطر مبادرات" تعبيراً عن واقع الشرق الأوسط بعد غزو العراق، خصوصاً كما قال ان "امر المباردة عاجل يفترض اتخاذ قرار أو موقف([2])" ويعني به المبادرة الأميركية لمشروع الشرق الأوسط الكبير([3]).
يستوقفنا في هذا القول إشارتان:
1-الإشارة الأولى في استعماله لكلمة «السماء» الواقعة في صلب الحدث، مع انه لم يقصدها، فهي تشير ببلاغة كاملة إلى العصر الأميركي أو إلى دول العولمة ونعني بها الولايات المتحدة الأميركية التي اعلنت عصر الفضاء في حروبها ومحاولة سيطرتها "رقميا"» على العالم. تجتاز هذه الدولة الفضاء في خطى مسرعة وتعلن عصر النار بعدما اجتازت في خطاها، ومعها شعوب أخرى كثيرة، حضارتي الأرض والماء أي اليابسة والمحيطات (وهنا تذكير بعناصر الخلق الأربع).
2- ليس أمر المبادرة التي اطلقها بوش للشرق الأوسط عاجلاً، بل أنها تكاد تكون مستحيلة ويصعب ضبطها في زمن محدد أو في اجيال محددة، ولذا وقعت صفة العجالة في غير موقعها... لكنها بطيئة بالطبع.
تساؤلات منهجية
وإذا كانت هذه المبادرة - المشروع قد ظهرت مباشرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وخصوصاً في سياق نقل السلطة إلى العراقيين، فإن مجموعة كبرى من التساؤلات تفرض نفسها هنا:
- لماذا مبادرة مشروع "الشرق الأوسط الكبير"؟
- ماذا نعني بالشرق الأوسط الكبير وهل هي تسمية جديدة فعلاً؟ ما هي الابعاد التجارية والاقتصادية والنفطية تحديداً التي تجعل من هذه المنطقة مسرحاً لأطماع الدول الكبرى؟
- ما فلسفة التكتلات في عصر العولمة؟ ما ضروراتها؟
- ما هو المقصود بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير"؟ ما هي الخلفيات والأحداث التي تقف خلفه؟ وما هو الإطار العام لهذه المبادرة، وعناصرها وآلياتها، وأولوياتها؟ كيف يمكن لمشروع واسع أحادي الجانب من هذا النوع أن يتحقق؟ ولماذا تتلاحق تصورات فرنسا والمانيا حول الشرق الأوسط الكبير مع انهما لم تشاركا في غزو العراق؟
- ما المقصود بتداعيات المبادرة وانهياراتها أمام ردود فعل الدول العربية والإسلامية؟ كيف نحول دون توليد صراع دولي جديد بين الشرق والغرب من قلب المبادرة؟
- ما هي الآفاق الفعلية للمبادرة وهل يستقيم إصلاح وتطوير نظم ومجتمعات باعتماد افكار مستوردة مفروضة من الخارج؟
- لماذا تبدو المبادرة مستحيلة؟ ألأنها تحاول نسج إسرائيل في الثوب الأوسطي فقط، أم لأنها تحمل مجموعات من الافكار والرؤى النخبوية العربية الأميركية وتحتاج إلى قرون لترجمتها، أم لأنها تبقى مسائل ومشكلات غربية يتم اسقاطها على المجتمعات العربية والإسلامية؟
تعتبر هذه الاسئلة المطروحة على سبيل المثال لا الحصر، نماذج لسلسلة من المشكلات والمسائل الطارئة والغامضة والتي يصعب تحديدها ولو مرحلياً، خصوصاً وأنها تقع في منطقة بالغة التحرك والتغيير، الأمر الذي يفرض تغيراً مستمراً في الأفكار والطروحات، وتعديلات لا تعرف الثبات في النصوص.
وعلى الرغم من هذه الصفة "الرملية الرخوة" الصحراوية في المبادرات والخرائط الكثيرة، نسوق مجموعة من العناوين الكبرى التي تشكل هيكلية البحث في المبادرة الأميركية:
أولا: العرب بين الأمة والشرق الأوسط.
ثانياً: خلفيات مشروع الشرق الأوسط الكبير وأبعاده.
ثالثاً: قراءة هادئة مختصرة لمشروع الشرق الأوسط.
رابعاً: تداعيات الورقة المستحيلة
بالإضافة إلى خاتمة حول تحولات أرض العرب في صراعات الوثائق.
أولاً: العرب بين الأمة والشرق الأوسط
لن نناقش في هذا المجال مفاهيم الأمة في تكوينها التاريخي([4]) ومدى ارتباطها بالقومية والوطنية والدولة والدين واللغة والجغرافيا والعلاقة في ما بينها كلها، لكننا سنركز مسار الخط البياني في استخدام الأمة العربية وتراجعه أمام تقدم ما يعرف بالشرق الأوسط الذي يعني في أبعاده السياسية مرادفاً نقيضاً هو "إسرائيل". ويلحظ بسهولة أن عدداً كبيراً من المعطيات يعمل على خرط "إسرائيل" ودمجها فعلياً في المنطقة مقابل سلخ الصفات القومية والعروبية عن العرب. ويقتضي تناول العرب وفهم معاني توسطهم بين الأمة والشرق الأوسط الكبير أن نقدّم ملاحظات أربع بالغة الأهمية:
1- تقدم «إسرائيل» في نصوص العرب
كان مصطلح "إسرائيل" محرماً في نصوص العرب وخطب زعمائهم ووسائل إعلامهم المكتوبة. ويكفي استرجاع هذه النصوص لتلمس إصرار العرب على المصطلح الطبيعي المعروف بـ «الأراضي المحتلة أو فلسطين المحتلة أو فلسطين» منذ العام 1948 حتى الثمانينات، حيث حلت مرحلة ثانية راح العرب يكتبون فيها مصطلح «العدو أو المغتصب الإسرائيلي» بين قوسين سقطا في مرحلة ثالثة ومعهما سقطت مجموعة من الصفات التي كانت تنعت بها «إسرائيل» وراح العرب في مرحلة رابعة يكتبونها في نصوصهم واحياناً يسبقون المصطلح بتعبير دولة فتصبح دولة «إسرائيل» يضعونها بين مزدوجين إشارة إلى عدم الاعتراف بها([5]).
في المرحلة الخامسة نزعت الكتابة العربية القوسين من حول كلمة «إسرائيل» وصارت حاضرة في نصوصنا دولة مثل باقي الدول الاخرى في العالم، تمهيداً للمرحلة السادسة التي ترسخت مع اتفاقية كامب ديفيد وما اعقبها من تداعيات ومتغيرات على المستويين العربي والعالمي.
بدت إسرائيل منذ توقيع هذه الاتفاقية([6]) واقعاً مادياً قريباً محققاً مع اكبر عاصمة عربية بعدما تحقق لغوياً وإعلامياً. وعلى الرغم من ردود الفعل التي كانت عسكرية من قبل العرب تجاه "إسرائيل" وتحولت في ربع قرن لتقتصر عل الممانعة والمراهنة على الفروقات الديموغرافية في النمو السكاني بين العرب و"إسرائيل" كحّل في الصراع، واهن بالطبع، فإن احتلال العدو الإسرائيلي واجتياجه لجزء من لبنان، وخصوصاً العاصمة بيروت، أظهر بعض العرب متأهبين للواقع الجديد. وهنا «انفتح الكلام العربي مجدداً على ظهور حيز كبير من التواطؤ والانهيارات بين العرب والعاملين في الخفاء والريبة والمنخرطين في النضال»([7]).
هكذا نرى إلى الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء مجموعة من التحولات اللغوية والتداعيات العربية في فترة ربع قرن. فمن فلسطين إلى غزة وأريحا نشهد طرائق انزلاق الكيان الإسرائيلي «خلسة»، حرباً وسلماً في الاذهان والنصوص وعبر مجمل الوسائل المتاحة والممكنة، وخصوصاً غير المباشرة، ووفق ميادين وخطط الإعلام الكثيرة الخفية التي يتقنها العدو ويبرع فيها([8]).
وبدأ أطراف الصراع يغرقون تدريجياً في خرائط جديدة وتسميات متعددة، وبدا العرب منقادين في مجملهم إلى مفاوضات السلام وفق منطق الاستفراد أو الاستقواء الإسرائيلي الذي يؤدي إلى الاستفراد طوعا، تصاحبه ضغوط أميركية اقتصادية وسياسية. وبدت ملامح السلام نافرة وفق المقاييس «الإسرائيلية» أمام تراجع العرب وتفرقهم وصراعاتهم.
المفارقة الخطيرة في «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، موضوع «بحثنا»، ليس تقدم إسرائيل في نصوص العرب، بل تمهيده لظهورها في نصوص المبادرة جزءاً أساسياً من دول الشرق الأوسط، وخارج أطر الصراع المستمر بينها وبين الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل جزء أساس في المبادرة.
2- تراجع القومية العربية
يقابل التقدم«الإسرائيلي» للإنخراط في منطقة الشرق الأوسط تراجع فعلي في الحضور العربي، بل غياب خطير لاستخدام المصطلحات القومية
الوحدوية مثل «الأمة العربية» أو «الوطن العربي» أو «القومية العربية» والتي
تبدو مادة تراشق بين النخب العربية من على شاشات الفضائيات العربية. الأخطر من ذلك كله ان هذا التراجع يأتي مصحوباً بتعزيز الخطاب العربي المستغرب لمصطلح الشرق الأوسط الجديد، حتى ان بعضاً من منظري البنك الدولي من أصول عربية حّرضوا على انشاء قسم يعرف بالـ Menarégion أي الاختصار لمنطقة الشرق الأوسط([9]) وهو ما بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحاً، أيضاً، في الجامعات والخرائط والشاشات العالمية الأميركية والعربية.
يرشح هذا التوجه الجديد من الضرورات التي اقتضتها العولمة حيث انحسرت الدول في حدودها التقليدية وروابطها القومية وانكسار مصطلح العالم الثالث وذوبانه في تجمع عالمي كبير يقابله العالم الأول أو دولة العولمة أي الولايات المتحدة الأميركية.
3- الشرق الأوسط مسرح صراعات القرن الـ 21
منذ أن آلت الحرب الباردة إلى الإنتهاء، تحولت منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من أوروبا، مسرحاً زاخراً بالعلاقات الدولية المتأزمة. كانت كل مخططات الصراع الدولي حافلة بتوقعات الاجتياح السوفياتي لأوروبا الغربية، الأمر الذي كان يستوجب دفاعاً اميركياً عنها، لكن بعد سقوط جدار برلين وأطروحة "صدام الحضارات" وزوال الاتحاد السوفياتي، برز كلام جديد عن «مواجهة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وبأن الشرق الأوسط خط التماس بين الحضارتين... وبالرغم من أن كثيرين لم يوافقوا على أطروحة هاننغتون في «صدام الحضارات» وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون آنذاك، فإن هذا الفكر كان يعكس تطلعات بعض النخب الأميركية حول هذه المنطقة التي اعتبروها مصدر تهديد لهم ومصدراً للموارد الأولية"([10]).
تخطت المسائل، إذاً، البعد اللغوي، على الرغم من أن اللغة والتعابير ترشحان من الفكر والمضامين، وتتم صياغتهما عن طريق الفكر، فبانت عملية انتاج المصطلحات وتوليدها نوعاً من تجسيد مشاريع وأفكار مطروحة لتعميمها على بلاد العرب والمسلمين من قبيل الترويج لإعادة تشكيل الأفكار والقناعات والأوطان وبشكل فعال قادر على صوغ مستقبل البلدان العربية والإسلامية بأقل قدر ممكن من الخسائر والممانعة.
وباختصار يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية جهدت في تاريخها المعاصر للتخلص من الخطر الأحمر الشيوعي، متكئة في ذلك على منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً المسلمين فيها، لتطويق البلدان الإلحادية ونسفها من الداخل، مع الاحتفاظ بكل الوسائل التي تؤمن لها تفجير المسلمين الدائم من الداخل، وذلك عبر تعزيز الأنظمة الجاهزة (préfabriquées). وعمدت أميركا في الوقت نفسه إلى مهادنة الخطر الأصفر الصيني من دون أن يكون الصراع واقعاً، بل مؤجلاً بينها كدولة قائمة عالمياً وبين الصين كدولة قادمة عالمياً ولو من الباب الاقتصادي المضبوط إلى حد كبير.
ماذا تفعل الولايات المتحدة اليوم؟ تهاجم «الخطر” الأخضر الإسلامي من وجهة نظرها، إذ توصمه بالارهاب. تريد النجاح حيث اخفق الاتحاد السوفياتي من قبل، لكن المغامرة الأميركية في أفغانستان صعبة، أو يصعب الوصول بها إلى نهايات محسومة، خصوصاً وأن وعورتها قد شكلت شوكة قاسية في خاصرتي بريطانيا والاتحاد السوفياتي. وقد وقفت دول بالصف تفتح ذراعيها، في الشرق الأوسط، للتحالف الصغير في شمالي أفغانستان كما للتحالف العالمي الكبير.
هكذا أقفلت أميركا القرن العشرين على حرب كان العرب والمسلمون ضحاياها، وافتتحت القرن الحادي والعشرين على حرب لا هوية لها متنقلة غير محددة يبدو العرب والمسلمون ضحاياها وليس لهم فيها سوى الامتثال للأوامر الأميركية والطاعة العمياء لما ترسمه لهم.
ولهذا بتنا نتحسس شروخاً فعلية في بعض مناطق الشرق الأوسط، تشتد وتقوى بين الحكومات الإسلامية والعربية وشعوبها. تنصاع الأنظمة لأميركا، أما الشعوب فترفض الاثنين، وتبدو مجمل الدول أحجاراً تتحرك فوق رقعة شطرنج شاءت أميركا تسميتها "بالشرق الأوسط الكبير".
قد يعكس التردد في الصياغة والتغيير في الطروحات بين المسلمين والغرب الأميركي نوعاً من عدم الوضوح في إيصال معاني التغيير والافكار الغربية المتنوعة. وتبرز المفارقات في نشر خط التغيير الديمقراطي الأميركي صارخة، بين أن تأتي نابعة من حاجات الشعوب، أو مستوردة من أميركا كالمقتنيات، بين أن تأتي نابعة قسرياً أو اختيارياً، في زمن قياسي أو في بطء وتطور طبيعيين. لهذه الأسباب يتبيّن بأن التغيير الأميركي المفروض يترادف مع مجموعة من الصفات السلبية التي تعني التفتيت أو التفكيك والانفصال وانهيار الأنظمة العامة وانتشار الفوضى والتخلي عن الهوية ونسف الثقافات والأديان وغيرها من النوايا التي تستبطنها مشاريع من هذا اللون.
و تترافق هذه المتغيرات في الأسماء والأشكال مع استذكار لخطط التطبيع الخفيّة التي لطالما برزت فيها بصمات العدو الإسرائيلي طيلة خمسين عاماً، وبرز حاداً في ما نفذته وتنفذه الإدارة الأميركية في العراق وقبلها أفغانستان وفلسطين، وما رافقها من تنكيل وخرق لأبسط القواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في ضوء هذا كله، جاء الرد الطبيعي الأولي على مبادرة الولايات المتحدة الكبيرة لشرق أوسط كبير رفضاً قوياً عارماً سرعان ما تمّ ربطه بـ "مشروع شيمون بيريز" عن"الشرق الأوسط الجديد". وبرزت إلى العلن مشاعر القلق والتوجس (مصر، سوريا، السعودية)، أو مواقف الحذر والتروي الهائل الى المطالبة بالحوار مع الأميركيين قبل اتخاذ أي موقف (بعض دول الخليج)، أو الانقلاب الجذري والاذعان (ليبيا) أو المواقف الصامتة من قبل عدد كبير من الدول العربية التي غالباً ما تشعر بأنها محشورة بين المطرقة والسندان أمام أي موقف متعلق بالولايات المتحدة الأميركية أو العدو الصهيوني.
وبشكل عام وبصرف النظر عن الاعتراضات العميقة التي تثيرها أغلبية العرب تجاه السياسات العدوانية الأميركية في بغداد وفلسطين، فإن جزءاً كبيراً من الرأي العام العربي والمثقفين بات يقرّ من على الشاشات وفي وسائل الإعلام أن دخول الولايات المتحدة الى المنطقة سيشكل حتماً عامل تغيير يزيد في كشف الأنظمة وعورات النخب وضيق المعارضين وتبرّمهم من الأوضاع العامة.
لكن النقطة السوداء في كل ذلك المشروع والتي تجعله غير قابل للقراءة الواضحة هي الدور «الإسرائيلي” في ما يحصل في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. هذا ما انعش فكرة المؤامرة مجدداً، باعتبار الولايات المتحدة، بكل قوتها وجبروتها وفلسفاتها في العولمة الإقتصادية الفكرية والثقافية، تهيئ نسيجاً طيّعاً للمخططات الصهيونية، تؤثر بها وتحولها وتسخّرها بطرائق غير مباشرة في سبيل تنفيذ مشاريعها الجهنمية، فبات المشروع مبادرة «شيطانية» غير مقبولة.
فما هو المقصود بالشرق الأوسط؟
ما هي حدوده وشعوبه؟
وما هي المرتكزات الاستراتيجية التي يتفّرد بها والتي تكسبه هذا الغنى التاريخي أو تلك الشهرة؟
4- مساحة مثقلة بالتاريخ
يغطي الشرق الأوسط، في مفهومه الواسع تاريخياً، مساحة شاسعة تصل الى ثمانية ملايين كلم2، تمتد من مصر حتى أفغانستان شرقاً، وفوقها يتوزع ستة عشر بلداً عربياً واسلامياً تتفاوت في أعداد سكانها([11]). فبينما نجد بضع مئات من ألوف السكان يؤلفون دولاً مثل قطر والبحرين، يرتفع عدد السكان في بعضها الآخر الى ما يلامس المئة مليون، مثل مصر وإيران واستراليا.
تعتبر هذه المساحة موئلاً «لموزاييك» شديد التنوع من الأمم والأتنيات والمذاهب، ومحط أطماع قوى ودول غربية كبرى، الأمر الذي راكم فوقها تواريخ موصولة بالرفض والاحتجاج والثورات لشعوب طالما عانت مشاريع التقسيمات والتجزئة. وقد لا يغالي الباحث بالنظر إلى هذه الرقعة الجغرافية الواسعة بوصفها رقعة «puzzele» بازل أو دمية سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين أيادي الدول العظمى، لكنها رقعة تفور بالتاريخ والأحداث.
يمكننا أن نميّز فوق خارطة هذه الرقعة جزءاً تركياً - ايرانياً (ايران، تركيا، افغانستان) وهلالاً خصيباً يجمع العراق والأردن وسوريا ولبنان، وقد زرعت فيه الدول العظمى "إسرائيل" مكان فلسطين وأورثت العالم تاريخاً من الحروب والاشتباكات الانسانية والقانونية، وقد ألهم هذا التشكل المستدير من الدول أفكاراً في القومية والوحدة والعلمانية (انطون سعادة مثلاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي).
ونميز في الرقعة نفسها باقة من دول شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، البحرين، الامارات العربية المتحدة، الكويت، عمان، قطر واليمن) كما نميز مصر في شرقي افريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل حضارياً منذ القدم.
أ - ثقاقات النيل والفرات
هذه البقع الاربع على تنوعّها جعلت من الشرق الأوسط منطقة مثقلة بأحداث التاريخ منذ القرن السابع قبل الميلاد. وقبل ان تتقدم مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في ارجائها الامبراطوريات الأولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين الرابع والثاني ق.م حيث صيغت تلك الحضارات بتلاقي مجموعة كبرى من ثقافات السومريين والساميين والحثيين والحوريين، نضيف اليها ثقافة النيل وخصوصاً بعد توحد مصر الفرعونية منذ الألف الثالث ق.م، الى الامبراطورية الأشورية التي أرست معالمها الحضارية خلال الألف الأول قبل المسيح([12]).
وترسخ النيل والفرات كرمزين تنبع منهما الثقافات والحضارات يتكاملان، ومنهما تنهل شعوب وحضارات موزعة فوق الكرة مالا يستنفذ من المعارف والأسرار والثقافات.
وقد توّجت مياه النهرين تلك الحضارة العربية - الإسلامية التي أرست ملامحها أيضاً عن طريق الانتشار الديني ومنبعه الوحي، مستندة الى لغة العرب وخصائصهم في التاريخ (660 - 1258 م).
وكان يجب انتظار القرن السادس عشر الذي بسطت منذ بدايته الامبراطورية العثمانية سلطاتها على مجمل هذه الرقعة باستثناء بلاد الفرس وأفغانستان والقسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية.
لم تعرف تلك المنطقة هندسة سياسية معاصرة الا مع انهيار الامبراطورية التركية العثمانية ونشوب الحربين العالميتين، حيث راحت الدول تأخذ طرقها تباعاً نحو التحرر ومن ربقات المستعمرين. فقامت دول وأمم قديمة حديثة مثل مصر وايران، الى دول حديثة جاءت حدودها ثمرة توافق مصالح بين الدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا.
وباختصار، بقيت الحدود مثاراً كبيراً لنزاعات داخلية بعد سايكس - بيكو حيث تجزأت المنطقة، وكان خلق «إسرائيل» نوعاً من اضافة موقد إضافي دائم الاشتعال لنزاعات أخرى مستمرة([13])..
ب- بقعة التشابك بين الشرق والغرب
بالاضافة الى الشعوب والثقافات التي شكّلت غنى الشرق الأوسط، فإنه منطقة واقعة على جغرافيا التماس بين أقصى الغرب والشرق على السواء، وقد سمح هذا الموقع الجغرافي المميز لشعوب تلك المنطقة القدرة على التواجد الطبيعي على الطرق التجارية التي توصل اقتصاد الغرب بأسواق الشرق ومنتوجاته، وهذا ما منح تلك البقعة قدرات تفاعلية خلاّقة مع الشعوب الأخرى والأقليات الإثنية والأمم المتنوعة، حيث كان من الطبيعي أن يصبح الشرق الأوسط، ليس ممراً وطريقاً، بقدر ما هو المنبع للتنوع اللغوي والثقافي والحضاري والعادات والتقاليد، والمصهر لمجموعات من الشعوب والأديان.
هذا الغنى الطبيعي السماوي يرفله غنى من نوع آخر، وهو أرضي كبير جاء بتفجّر البترول([14])، وهما اللذان منحا تلك البقعة الفريدة من الكرة هذا القدر من الاهتمام. وتحفل المكتبات بالتفاصيل والقصص والدراسات المرتبطة بالشرق الأوسط البترولي الذي يشكل بهذا المعنى محط أنظار العالم. نكتفي بالاشارة في هذا المجال الى أن دولاً معاصرة ثلاث تلعب في ميدان سلامة وتصدير النفط أدواراً كبيرة، هي المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، مصر للمراقبة عند السويس وحماية ناقلات النفط، وتركيا محطة الترانزيت للنفط العراقي، بينما تلعب السعودية الدور الأكبر بالطبع لتأمين ضخ بترولها مع الاشراف على مبيعات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط.
ج- المعطيات الجيوسياسية الجديدة
فجّرت الحرب العراقية الايرانية (1980 - 1988) ذاك الاحتقان الذي كان سائداً على ضفاف الخليج بين شعبين تأسسا على الصراع عبر التاريخ، وخصوصاً في أعقاب توطيد الثورة الإسلامية في طهران وطرد الشاه (1979). ولطالما شكّل شط العرب وكازاخستان حافزي الصراعات بين البلدين منذ القرن الثامن عشر، وكان الفرات (204 كلم) النهر الطبيعي الذي يرسم الملامح الحدودية بينهما على امتداد 105 كلم. يمكن القول انه نهر قديم تاريخي، سياسي وثقافي كان يفصل بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية أو بين عالمين عربي وآري كما بين طائفتين اسلاميتين سنية وشيعية، ولقد حوّله البترول الى مجرى مائي تعقد فوق مياهه التبادلات الدولية في ميادين الطاقة: عبادان على ضفته اليسرى حيث تقوم أضخم مصافي بترولية في العالم، والبصرة والفاو على ضفته اليمنى تشكلان رئتي الاقتصاد العراقي ([15]).
وقد لعب رسم الحدود فوق صفحة النهر شاغلاً أدى الى مجموعة تسويات واتفاقيات (ومنذ التواجد التركي في منتصف القرن السابع) بين الفرس والامبراطورية العثمانية ومن ثم بين العراق وايران، كان آخرها اتفاق الجزائر (1975).
وخرجت الدولتان الايرانية والعراقية منهكتين في العام 1988 من الحرب وبرعاية الأمم المتحدة، لكن العراق المديون، المدجج بأسلحة روسية وغربية ومساعدات عسكرية متنوعة وكبيرة أظهرته قوة أساسية لا يستهان بها في الخليج، تكاد تهدد «إسرائيل»، وتستعيد مجد إيران الشاه في المنطقة، وكان صدام حسين يتطلع الى وضع تلك الحركة النفطية في الرقعة المتوسطية تحت لحظه ومضاعفة مخزونه، مما دفعه الى غزو الكويت (2 آب 1990). ولأن المصالح الغربية باتت في الميزان الدقيق، كان التحالف الكبير الذي ضم 29 بلداً أرغم وبواسطته، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، العراق على الانسحاب من الكويت ووقف اطلاق النار (في 26 شباط 1991)، وهذا ما عرف بحرب الخليج الأولى او "عاصفة الصحراء".
مع «عاصفة الصحراء» تحولت رقعة الشطرنج الشرق أوسطية سياسياً واستراتيجياً، واهتزت من دون متغيرات كبرى في الترسيمات الحدودية، وتحركت أحلام الشيعة في جنوب العراق، والأكراد في شماله، بعد الهزيمة العراقية وانكفاء صدام الى داخل أراضي العراق، من دون ان تفضي الأحداث الى أي اعادة نظر جغرافية.
هناك معطيات أساسية برزت على مسرح الشرق الأوسط وباتت في دائرة الضوء الساطع بعد هذه الحرب العاصفة:
1- ظهور التفوق الأميركي المطلق في المنطقة تأسيساً لمستقبل رقمي سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى ثقافي ولغوي.
2-انقسام الدول العربية بين من هو في ركب التحالف ومن هو خارجه، الأمر الذي ساهم في تزكية التجاذبات والاتهامات بين الاطراف الاقليمية.
3- اما ايران التي غلبت الحيادية على موقفها من «عاصفة الصحراء» فهي لم تنس امنية اعادة لعب دور شرطي الخليج التي دفعتها استحالة تحقيقه الى قيادة سياسية فاعلة في آسيا الوسطى وفي بلاد القوقاز.
4- جهدت المملكة العربية السعودية لإظهار دورها في مراقبة سوق النفط في المنطقة، لكن أوضاعها الديمغرافية والعسكرية جعلتها تظهر وكأنها مرتبطة أمنياً وأكثر من أي وقت مضى بالحماية الأميركية.
5- بدت سوريا البلد الاكثر فطنة وحذراً في إيجاد العبر المفيدة من الصراع، وعلى الرغم من مشاركتها في التحالف، فإن نجمها راح يسطع وحيداً تقريباً على مسرح الشرق الأوسط، وتمكنت من تقديم نفسها قوة اقليمية كبرى وازنة وموزونة ويحسب لها ألف حساب، وبلغت وتيرة التنسيق فيها مع لبنان أرفع مستوياتها واكثرها جدوى وقوة.
6- لقد أسقطت «عاصفة الصحراء» أسطورة قائمة منذ 1967 إسمها العراق. ولم تعد الأراضي الفلسطينية على الاقل بالنسبة «لإسرائيل» تشكل "العمق الاستراتيجي" القديم المشهور في وجهها، وجاء اعلان المبادئ الذي وقّع في واشنطن (في 13 ايلول 1993) القائل بالإدارة الفلسطينية الذاتية لقطاعي غزة والضفة الغربية محفوفاً بصعوبات تطبيقه بل باستحالته، وذلك منذ عودة ياسر عرفات الى غزة في تموز .1994 والسبب ان الانتفاضة الفلسطينية التي ابتدأت بالمقلاع تسارعت نحو خطر اقتلاع الفلسطينيين من فلسطين أمام وحشية السياسة الإسرائيلية ولاسيما تلك التي يمارسها شارون حتى اليوم. وبقيت مسألة انشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية ملفاً مفتوحاً على الدم، وعلى الرغم من أن الأردن قد وقع معاهدة سلمية مع إسرائيل (في 26 تشرين الاول 1994) فإن مسارات مدريد([16]) بانت معطلة، ومقولة الأرض مقابل السلام بقيت شعاراً لا ينطبق أبداً مع واقع الممارسات الإسرائيلية التي اسقطت قداسة حدود 1967 بالنسبة للعرب وللعالم، وعزّزت الاستيطان وزجّت بآلاف المعتقلين في السجون وبات سقوط الضحايا والشهداء قوت الأراضي المحتلة اليومي، والدوائر الكبرى تهمس "بالترانسفير" على صعوبته.
7- وفي التقدير إن توقيع أوسلو (19 ايلول 1993) كتتويج لمفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل هو المحصلة لكل هذه الممارسات، أو إنه جاء «محصّلة لتراكم الهزائم والاخطار والانتكاسات العربية والفلسطينية في ظل انفراد الولايات المتحدة الأميركية في السيطرة على العالم» ([17]).
وفي الخلاصة لم يكن هذا التأرجح العربي بين الامة وانفلاتها في مساحات واسعة كالشرق الأوسط أمراً سلساً للقيادة العربية المتشظية في أكثر من اتجاه، بل كان نتيجة طبيعية لتراكم الهزائم وتضافر المخططات وتسارع الأحداث الكبرى التي عجّلت في صوغ مشاريع جديدة للشرق الأوسط او سحب مشاريع قديمة من دون تعديلات كبرى عليها.
فما هي الاحداث الجديدة التي أظهرت لنا مشروع الشرق الأوسط الموسّع؟
ثانياً: خلفيات المشروع وأبعاده
تذكرنا المبادرة الأميركية التي تطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير ببدايات القرن الماضي، عندما راحت الدول الكبرى تنظر الى الامبراطورية العثمانية بوصفها "الرجل المريض" الذي نضج زمان اقتسام أراضيه وخيراته، بما فيها البلاد العربية التي شكلت اجزاء من تركته آنذاك.
وهكذا حملت تلك المرحلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية متغيرات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، اذاً، واقتسمها الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) بعدما أبرموا عدداً من الاتفاقات، خصوصاً سايكس - بيكو (1916) ثم مؤتمر سان ريمو الذي رتّب الأوضاع القانونية في اقتسام لبنان وسوريا وفلسطين وأجزاء من العراق. واذا كانت اوروبا ممثلة بسايكس وبيكو قد وضعت حجر الأساس للبناء السياسي لمنطقة الشرق الأوسط مجزءاً في اعقاب الحرب الكونية الاولى، فإن أميركا ممثلة بجورج مارشال ([18]) جاءت تضع البنيان الاقتصادي للعالم بدءاً من اوروبا وفي أعقاب الحرب الكونية الثانية.
وها هي تخرج من الشراكة فتبدو "مارشالاً" جديداً تضع يدها على المنطقة، وتقدم مشروع الشرق الأوسط الكبير فتعتبره في الفقرة الاولى منه انه «ضرورة للعالم لأنه منطقة تشكيل فرصة فريدة للمجتمع الدولي".
إننا أمام دولة عالمية تعيد صياغة المنطقة وتحديدها وفقاً لعلاقات جديدة لا تحترم خصوصيات الأوضاع السياسية لبلدان الشرق ولا تبالي بالأبعاد الخطيرة للصراع العربي - الإسرائيلي المزمن.
قد يكون مفيداً القفز فوق المكّونات التاريخية القديمة المتراكمة التي أوصلت الى هذا المشروع، والاستغراق في ربطه أكثر بمجموعة من المكّونات الأقرب في أحداثها الى زمن المبادرة التي سرعان ما وضعت مشروعاً خاضعاً لنقاشات وتجاذبات طويلة في المستقبل.
فما هي هذه المقومات والاحداث الجديدة؟
1- "مصيبة" 11 ايلول 2001
يشابه هذا الحدث «المصيبة» التي لحقت بالقرن الواحد والعشرين، لأنه يشابه التاريخ الميلادي الثاني بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، يمكننا ان نؤرخ لما قبله وما بعده. فقد سقطت معه مثلاً رمّة واحدة تلك الفترة الانتقالية التي كانت قائمة بين انهيار معالم الحرب الباردة وتكوّن ملامح النظام العالمي الجديد.
فمع انهيار البرجين في أميركا الى مبنى في البنتاغون، وانهيار برج بابل في بلاد ما بين النهرين حيث تبلبلت الألسن واللغات في ما بين شعوب الأرض، تشابه كبير. لم يصل أهل بابل (العراق القديم) إلى السماء لكن أميركا هبطت بعد تلك المصيبة من عصرها الفضائي، وكأننا كنا نعاني وقع سقوط العولمة الذي التي لم تنضج بعد، ولم يهضمها الكثير من شعوب الشرق الأوسط، او انهم لم يستوعبوا مراميها وأفكارها الكثيرة، وبهذا التبست مجمل الأفكار والنظريات التي كانت تفخر أميركا بتقديمها الى الشعوب وكأنها تشابه المطر ولا يمكن التحكّم به.
قد لا نعرف حجم الأفكار والتحليلات والاسقاطات والأضاليل الكثيرة والأسرار المتخفية تحت ركام البرجين من دون اشهار نقطة دم واحدة في وجه العالم. كان يمكن التصور بأن وراء نضوب الدم الأميركي أنهار من الدماء العربية والإسلامية تنتظر في آفاق الشرق الأوسط بالاضافة الى رفع مقولة القرن أن لا فعالية سياسية في عالم اليوم خارج الفعالية العسكرية «الرقمية».
وقد صاحب هذه المقولة توجس دولي ينذر بهويات جديدة وتحولات كبرى قد تطول أو تقصر طبقاً للحروب المفتوحة. فقد أحدث الهجوم على أميركا انقلاباً جذرياً شاملاً في سياستها العالمية وخصوصاً الشرق الأوسطية منها، وأظهر الأميركيون مواقف مفرطة الحساسية تجاه مشاكل الأمن القومي والعالمي، وقد استقر في يقينهم أن الشرق الأوسط هو أحد أهم مصادر التهديد الرئيسية، ان لم يكن المصدر الأول لتصدير «الارهاب» وتهديد الأوضاع الأمنية في العالم.
إنها «مصيبة» لكنها المصيبة الأكبر في العالم كما أبرزتها أميركا، فالحادث يحتل القرن الراهن على المستويات العسكرية والسياسية والمالية والأمنية والثقافية.
أليست الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأكبر في العالم؟
يكفي مراقبة اسمها الطويل وأبراجها الشاهقة الأكبر في العالم، وسياراتها وبرّداتها (ثلاجاتها) وجاداتها وقوة الـ bits في حواسيبها، لتكون مصيبة 11 ايلول أيضاً «المصيبة» الدولية الأكبر، أيضاً، في العالم. والملاحظة الطريفة التي تؤكد بأن الدول مثل الافراد يسقطون أحجامهم في تطلعاتهم وافكارهم ورؤاهم، تجعلنا ندرك سلفاً أن المشروع المسمى بـ «مشروع الشرق الأوسط الكبير» هو كبير الى درجة لا يمكن تصّورها، وتكفي مقاربة تفاصيله لندرك مدى كبر «المصيبة» الأميركية التي تشكل حافزاً واضحاً لتغيير معالم الشرق الأوسط بل العالم كله، وكأن الفكر العالمي اليوم، بهذا المعنى، أمام أميركا دولة العولمة من ناحية، والعالم كله من ناحية ثانية. وبهذا تسقط تسميات مثل العالم الثاني أو الثالث في توصيف الدول اذ تبدو أميركا وحيدة والعالم كله ثالثاً ([19]).
ليس هناك من شكوك في ان الإدارة الأميركية التي تتقن الحفاظ على مصالحها الحيوية الواسعة الأطراف، لم تتردد يوماً في التذكير بها في الشرق الأوسط، وهي تشعر منذ الحادي عشر من أيلول على الاقل بأن النظم العربية المشرقية والإسلامية خصوصاً، والتي رعت انشاءها وساهمت كثيراً في تعزيز سيطرتها وبقائها، قد أصابها الوهن ولم تعد تقوى على حمل المسؤوليات التي كانت الأسباب الأساسية في تقديم الدعم الشامل لها.
ويأتي في رأس هذه المسؤوليات تحقيق الاستقرار والسلام الاقليمي والعالمي، والرد الجزئي على حاجات مجتمعاتها المحلية حتى يمكن ضمان الأمن والاستقرار فيها. فقد خسرت هذه النظم معركة الاستقرار والسلام الاقليميين ولم تنجح في ضبط القوى والمنظمات الأهلية المقاتلة ضد إسرائيل، ولم تقبل بتسوية عربية إسرائيلية تضع حداً لمناخ المواجهة والعنف في المنطقة، وتفتح الطريق أمام ما يبدو حملة اخضاع وتهدئة شاملة لمجتمعات المنطقة وشعوبها. والمفارقة في المنظار الأميركي دوماً أن عدداً من هذه الانظمة المتضامنة في اطار الجامعة العربية لا تتورع هي نفسها عن دعم بعض منظمات المقاومة «الارهابية»، وتشجع بالتالي على العنف وزعزعة الاستقرار الاقليمي والعالمي.
والواقع ان الشعور العميق بولادة نمط تهديدات جديدة وخطيرة على الأمن الأميركي والعالمي، لم ينشأ بسبب من هذا الهجوم النوعي من الناحية الاستراتيجية، ولكن أكثر من ذلك بسبب ارتباطه بمنظمات اسلامية كانت تعتبر حتى ذلك الوقت احدى أدوات الصراع السياسي الرئيسة التي تستخدمها الولايات المتحدة نفسها، سواء اكان في ضغوطها السياسية على الأنظمة العربية، أم في مناوراتها الاستراتيجية الكبرى، كما في أفغانستان، وقبلها في «تحويق» الاتحاد السوفياتي والمنظمة الاشتراكية، تسهيلاً لبذر الديمقراطية في أرجائها ومحاولة إلحاقها بركابها.
وفقاً لهذا التحليل الذي يصب بالتالي في فهم احد أهم مقومات المشروع الأميركي، موضوع البحث، لم يحمل هجوم 11 ايلول هزيمة عسكرية خطيرة جداً للولايات المتحدة (مع ان هزائمها جاءت من التحليلات والمعلومات الخطيرة التي لوّثت سمعة العديد من رجال الإدارة الأميركية المتواطئين في ما حصل)، ولكنه أفقدها حليفاً تاريخياً وعالمياً استثنائياً. وبقدر ما أظهر هذا الهجوم في مستوييه أخطاء الحسابات الاستراتيجية الأميركية السابقة، فقد خلق لديها، بالفعل، تحديات جديدة كبرى لم تكن منتظرة ولا مناص من مواجهتها.
أهم ما في 11 ايلول تلك الضربة النفسية القوية التي أورثتها للولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتباهى في الشرق الأوسط واوروبا والعالم بوصفها القوة الوحيدة من دون حلفاء في عالم تسيطر عليه عقيدة القوة والنزوع الى السيطرة.
كان الشرق الأوسط (الإسلامي) البقعة التي منها انطلقت الضربة العسكرية القوية التي ألّمت بالولايات المتحدة وأظهرت هشاشة أنظمتها الدفاعية الرقمية، ولذا كان من المتوقع أن تختاره الإدارة الأميركية كموقع أول تصفّي حساباتها معه. وهو الموقع الذي يتجاوز أي منطقة أخرى من العالم تشعر فيه الولايات المتحدة بأن اصدقاءها وحلفائها قد انقلبوا عليها فيه، وانها لن تتمكن من استعادة هيبتها وصدقيتها وكرامتها من دون ان تعيد هؤلاء الذين خدعوها أو خانوها الى «الطريق القويم».
ومما عزز هذا المكَّون تقارير الأمم المتحدة التي أظهرت بالفعل الحجم الهائل لهدر الموارد والطاقة والفرص في منطقة الشرق الأوسط، مما وضع بين أيدي الإدارة الأميركية مادة دسمة تبرر بها غضبها على هذه الأنظمة او حملاتها عليها.
بهذا المعنى، راحت الإدارة الأميركية تصوغ للنظم العربية والنخب الحاكمة صورة سلبية من ناحية يقترن فيها الاستبداد بالخديعة والنفاق وما يمثله من انعدام الصدقية والاخفاق الخطير في نمط الإدارة والمسؤولية، ومن ناحية أخرى التحضّر لصياغة مشاريع تعيد النظر في كل شيء لإعادة بناء الشرق الأوسط من الصفر.
2- غزو العراق
جاء غزو العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، كذريعة لم تستقم، المكّون الثاني البارز في اعادة رسم الشرق الأوسط. وما احتلال العراق وتدمير دولته ومؤسساته وبناه التحتية الاقتصادية والثقافية سوى التعبير الواضح عن ارادة الانتقام التي تحكّمت بالقيادة الأميركية في منتصف العام 2003، وتصفية الحسابات مع العرب المسؤولين في نظر الإدارة الأميركية عن انتاج منظمة القاعدة، وغيرها من المنظمات الارهابية. وعلى هذا المستوى الانتقامي كان لا يمكن البحث إلاّ عن ردود فعل تقود الى تعاظم تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. لكن الإدارة الأميركية كانت تدرك ان وراء أساليب الانتقام تلك مشكلة حقيقية شرق أوسطية، وأن ضمان مصالحها لا يتحقق الا بتغييرات أساسية على مستوى أنماط الإدارة والحكم، ومستوى اخراج المنطقة من عزلتها الدولية وركودها الاقتصادي والاجتماعي.
هكذا وجدت الولايات المتحدة أمامها أزمة سياسية عميقة راحت تقوى بفعل ازدياد مخاطر الأصوليين على السلطة في اكثر من بلد عربي.
وازداد ادراك الإدارة الأميركية للمخاطر مع تنامي اخبار تعميم الفساد الذي كانت تلح عليه المؤسسات الدولية، كاشفة أعطال النظم العربية. وقد نتج عن ذلك بالطبع، توليد سحر جماهيري انصرف نحو المعارضات الإسلامية والحركات الباحثة عن الأصول والقيم الدينية وأساليب المقاومة التي تذكّيها وسائل الاعلام الغربية، وكان يساعد في ذلك بالطبع الانحلال الفاضح والمتفاقم لمؤسسات الأنظمة القائمة.
وشعرت الدول بأنها تدفع ثمن انهيار حدودها في عصر العولمة الأميركية بعدما سبق لها ان دفعت أثمان بناء ورفع الحدود في ما بينها كلها، بهذا المعنى انصرفت الإدارة الأميركية الى بلورة استراتيجية جديدة ذات أطر ثلاثة:
أ- شن الحرب على ما أسمته الارهاب، وهي تقصد به الحركات الإسلامية التي تشكل في رأيها الخطر الرئيسي على الاستقرار في المنطقة والعالم.
ب- العودة الى صياغة مشاريع تهدف الى اصلاح النظم القائمة في الشرق الأوسط.
ت- اعادة ايقاظ طريق التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بعدما جرى هجره لفترة ليست قليلة.
وكانت الإدارة الأميركية تأمل من هذه الاستراتيجية المثلثة الأبعاد، وما زالت، وضع حد للتدهور القائم في الشرق الأوسط، ثم ربطه بالاقتصاد الأميركي، بحيث يمكن التغلب على مخاطر القطيعة المحتملة معه في المستقبل اذا ما تركت الامور على غواربها.
وبان، من هذه الزوايا الاستراتيجية، ان مصلحة تكاد تتحكم بالولايات المتحدة مختصرها إحداث تغيير ملموس في المنطقة حتى تقطع الطريق على أي بديل آخر يهدد مصالحها، سواء أكان ديمقراطياً أم اسلامياً.
لكن السؤال الذي يطرح هنا هو مثابة مجموعة أسئلة:
هل تستطيع الولايات المتحدة إحداث هذا التغيير؟ وما هي مصلحتها فيه؟ وهل لديها الوسائل الفعلية المقنعة لإحداث هذا التغيير؟ وكيف لها ان تجمع بين قدرتها على التغيير وعدم الرغبة في المنطقة على المضي في هذا التغيير، خصوصاً بعد تلمس تداعيات فلسطين والعراق ونتائجهما؟
نجد الاجابة في ما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الأميركية جيمس ولسي من أن «الولايات المتحدة ستعمل على تغيير أنظمة الحكم في جميع الدول العربية وعلى رأسها السعودية ومصر، بعد الانتهاء من العراق... فالدول العربية تنقسم الى قسمين: إما ديكتاتوريات مطلقة أو أنظمة لأسرة محددة تتولى الحكم بأسلوب بيروقراطي متخلف لا يترك أي مجال للمشاركة السياسية». وقال «إن الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على المنطقة بدءاً من العراق، لا ترتبط بالضرورة بأسلحة الدمار الشامل، بل هي اساس لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي» ([20]).
ولو دفعنا الاجابة عمقاً لأمكننا القول ان منطق الجغرافيا السياسية يقود الى احتواء التهديد الذي يخيم على النظام الأميركي، مما يستدعي عدم ترك مركز العالم الحقيقي الذي هو الشرق الأوسط، يفلت من يدها.
وهذا ما جعلها تمسك بخناق العراق باعتباره الحلقة الأضعف بعد أفغانستان ومدخلاً لتغيير خريطة الشرق الأوسط وقيام امبراطورية جديدة تمنع التقاء اوروبا والصين عبر أوراسيا، كما ان غزو العراق واحتلاله يأتي تطبيقاً للهدف الاستراتيجي الاساسي والقديم للولايات المتحدة القائم على ضرورة التحكم السياسي بالموارد العالمية منذ صار التزود بالسلع المختلفة والرساميل أولوية مطلقة.