السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية,,,مصطفى صادق الرافعي
السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية
السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية
لما أردتُ أن أَكْتُبَ هذا الفضل وهمَمْتُ به، عرضتْ لي مسألةٌ نظرتُ فيها جوابَها، ثم قدَّرْتُ أن يكون أبلغُ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلاً يُحسِن العربية المُبِينَةَ، وقد بَلَغَ فيها مَبْلغَ أئمتها عِلْمًا وذَوْقًا، ودَرَسَ تاريخَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَرْسَ الروح لأعمال الروح، وتَفَقَّهَ في شريعته فِقْه الحِكمة لأسرار الحِكمة، واستوعَبَ أحاديثه واعتبرَها بفنِّ النقد البيانيّ، الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلتُ أنِّي لَقِيتُ هذا الرجل فسألتُهُ: ما هو الجمال الفنيُّ عندك في بلاغة محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفةُ البيان منه؟ وما سِرُّه الذي يجتمع فيه؟
ولم يكد يَخْطِرُ[1] لي ذلك حتى انكشف الخاطر[2] عن وجه آخَرَ، وذلك أن يكون معنى هذا السؤالِ بعينه، قد وقع في شيء من حديث النفس لأَبْلَغِ أولئك العرب الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وقد صَحِبَهُ فطالت صُحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيءٌ، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبرْ ما عسى أن يكون سِرَّ الجمال في بلاغته - صلى الله عليه وسلم - وما مرجعه الذي يُردُّ إليه؟
لو دار السؤال دَوْرِتَّيَهُ في هذه السليقة[3] العربية المحكمة، التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة، التي بلغت أن تكون سَليقة تدرس وتفكر، لَمَا خلص من كلتيهما إلا برأي واحد، تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها: وهو أن ذلك الجمال الفنيَّ في بلاغته - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أثر على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
وبعدُ: فأنا في هذه الصفحات لا أَصنع شيئًا غيرَ تفصيل هذا الجواب وشَرْحِهِ، وباستخراج معانيه، واستنباطِ[4] أدلَّته، والكشْفِ عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درسْتُ كلامه - صلى الله عليه وسلم - وقضيت في ذلك أيامًا أَتَتَبَّعُ السرَّ الذي وقع في التاريخ القفر المجدِب، فأَخْصَبَ به وأَنْبَتَ للدنيا أزهاره الإنسانيةَ الجميلة، فكانوا ناسًا إن عِبْتَهُم بشيء لم تَعِبْهُمْ إلا أنهم دون الملائكة، وكانوا ناسًا دارت الكرة الأرضية في عَدِّهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم تركتُ الكلام النبوي يتكلم في نفسي، ويُلهِمَني ما أُفصِح به عنه؛ فلَكَأَنِّي به يقول في صفة نفسه: إني أصنَعُ أُمَّةً لها تاريخُ الأرض مِن بعدُ، فأنا أُقبِل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا مع القلوب والأنفس والحقائق؛ لا مع الكلام والناس والوقت.
إن هاهنا دِنيًا الصحراء سَتَلِدُ الدنيا المتحضرةَ التي من ذُرِّيَّتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض، بنور مُتَمِّمٍ لما يعمله نور الشمس والقمر.
وقد كان المسلمون يَغْزُون الدنيا بأسلحة، هي في ظاهِرِهَا أسلحة المقاتلين؛ ولكنَّها في معانيها أسلحةُ الأطباء؛ وكانوا يحمِلون الكتاب والسُّنة، ثم مَضَوْا إلى سبيلهم، وبَقِيَ الكلام من بعدِهِمْ غازيًا محاربًا في العالم كلِّه حَرْبَ تغيير وتحويل، إلى أن يَدْخُلَ الإسلام على ما دخل عليه الليل.
هذا منطق الحديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أَتَمَثَّلُهُ مُرْسَلاً بتلك الفصاحة العالية مِنْ فَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث يَمُرُّ إعجاز الوحي أوَّلَ ما يخرج به الصوتُ البَشَرِيُّ إلى العالم، فلا أرى ثَمَّ إلا أن شيئًا إلهيًّا عظيمًا متصلاً بروح الكَوْن كلِّه اتصالَ بعض السرِّ ببعض السرِّ، يتكلم بكلامٍ إنسانيٍّ، هو هذا الحديث، الذي يجئ في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم.
كنتُ أتأمَّله قِطعًا منَ البيان؛ فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمَّل فيها روضةً تتَنَفَّسُ على القلب، أو منظرًا يَهُزُّ جمالُهُ النفس، أو عاطفة تَزِيد بها الحياةُ في الدمِ، على هدوء ورُوح وإحساس ولذَّة؛ ثم يَزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزقَ النور، فإذا أنا في ذَوْقِ البيان؛ كأنما أرى المتكلِّم - صلى الله عليه وسلم - وراء كلامه.
وأَعْجَبُ من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق، أتعرف أسرارَهُ، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهَدْيِهِ؛ ثم أُحِسُّهُ كأنَّما يقول لي ما يقول المعلِّم لتلميذه: أَفَهِمْتَ؟
وقفتُ عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ قومًا ركبوا في سفينة فاقتسموا، فصار لكلّ رجل منهم موضع، فَنَقَرَ رجل منهم موضِعَهُ بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟! قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا)).
فكان لهذا الحديث في نفسي كلامٌ طويل عن هؤلاء الذين يخوضون[5] معنا البحر، ويُسَمِّون أنفسهم بالمجدِّدين، ويَنتحلون ضروبًا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغَيْرَةِ، والإصلاح، ولا يزال أحدهم يَنْقُرُ مَوْضِعَهُ من سفينة دِيننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه؛ أي: بقلمه... زاعمًا أنه مَوْضِعُهُ من الحياة الاجتماعية، يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجِّهًا لحماقته وُجُوهًا من المعاذير والحُجَج؛ من المدنِيَّة والفسلفة، جاهلاً أنَّ القانون في العاقبة دون غيرها؛ فالحُكْم لا يكون على العمل بعد وقوعه؛ كما يحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجُرم يَقْتَرِفُهُ المجرم؛ كما يعاقَب اللص والقاتل وغيرهما؛ بل على الشروع فيه؛ بل على تَوَجُّهِ النية إليه، فلا حرية هنا في عمل، يُفْسِدُ خشب السفينة، أو يَمَسُّهُ من قُرْب أو بُعْدٍ، ما دامت مُلْجِجَةً في بحرها، سائرةً إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخَرْق" لا تَحمل في السفينة معناها الأرضي، وهناك لفظة (أَصْغَرُ خَرْقٍ) ليس لها إلا معنى واحد، هو (أَوْسَعُ قَبْرٍ)...
فَفَكِّرْ في أعظم فلاسفة الدنيا مَهْما يكن من حريته وانطلاقه، فهو هاهنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد، تفسيرها في لغة البحر: حدود الحياة والمصلحة، وكما أن لفظة "الخَرْق" يكون من معانيها في البحر القَبْر والغَرَق والهلاك، فكلمة "الفلسفة" يكون من بعض معانيها في الاجتماع: الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة "الحرية" يكون من معانيها: الجناية والزيغ والفساد، وعلى هذا القياس اللغوي، فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المُخَرِّب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: أفهمتَ؟
هكذا يجب تَأَمُّل الجمال الفنّيِّ في كلامه - صلى الله عليه وسلم - فهو كلام كلما زِدْتَهُ فِكرًا زادك معنًى، وتفسيرُه قريب قريب؛ كالروح في جسمها البشري؛ ولكنه بعيد بعيد؛ كالروح في سِرِّها الإلهي؛ فهُو مَعَكَ على قَدْرِ ما أَنْتَ مَعَه؛ إن وقفْتَ على حدٍّ وَقَفَ، وإن مَدَدْتَ مَدَّ، وما أَدَّيْتَ به تَأَدَّى[6]، وليس فيه شيء مما تراه لكل بُلَغاء الدنيا من صناعة عَبَثِ القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضعٍ من وضع، والقيام على الكلمة حتى تُبَيَّضَ كلمة أخرى... والرغبة في تكثير سواد المعاني، وتَرْك اللسان يَطِيشُ طَيْشَهُ اللُّغَوِيَّ، يتعلق بكل ما عَرَضَ له، ويَحْذُو الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويَستكرِهُها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلام قيل لتصير به المعاني إلى حقائقها؛ فهو من لسانٍ وراءَهُ قَلْبٌ، وراءه نور، وراءه الله - جل جلاله - وهو كلام في مجموعه كأنه دنيا أصدرها - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه العطيمة، لا تَبْرَح ماضيةً في طريقها السَّوِيِّ على دين الفطرة؛ فلا تتَّسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتَّنافُر إنَّما يكونانِ من الحيوانيَّة المختَلِفة بطَبِيعَتها؛ لقيامِها على قانون التَّنازُع، تَعْدُو به وتجترم[7] وتأثم، فهي نازلة إلى الشرِّ، والشرُّ بعضه أَسفلُ من بعض، أمَّا رُوحانية الفطرة فمُتَّسِقَة[8] بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أوَّلها العلوَّ فوق الذاتية، وقانونُها التعاونَ على البِرِّ والتقوى، فهي صاعدة إلى الجهير، والخير بعضه أعلى من بعض.
فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجري مَجْرَى عمله: كلُّه دين وتقوَى وتعليم، وكلُّه رُوحانيَّة وقوة وحياة؛ وإنَّه يخيَّلُ إليَّ وقد أُخِذْتُ بِطُهْرِه وجمالِه، أنَّ منَ الفنِّ العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ.
أما أُسلوبه - صلى الله عليه وسلم - فأجد له في نفسي روحَ الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة، قوَّة أمْرٍ نافذ لا يتخلَّف، وإنَّ له مع ذلك نَسَقًا هادئًا هُدُوءَ اليقين، مُبِينًا بيانَ الحكمة، خالصًا خُلوص السرِّ، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أَمْرُ الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووَحْيِهِ، ليَتَوَجَّهَ بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورَتُه بنفسه، هي دورته بنفسه وبما حوله؟! رُوح نبي مصلِح رحيمٍ، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقَها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطِباعه مجموعٌ إنسانيٌّ عظيم لو شُبِّهَ بشيء لَقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا.
ومَن دَرَس تاريخه - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه حقَّهُ منَ النظر والفِكْر والتحقيق، رأى نَسَقًا منَ التاريخ العجيب؛ كنظام فَلَكٍ منَ الأفلاك، مُوَجَّه بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي، فليسَ يَمْتَرِي عاقِلٌ مُمَيِّز أنَّ هَذِه الحياةَ الشريفةَ بذلك النظام الدقيق في ذلك التوجُّه المحكَم، لا يُطِيقُها بَشَر من لحمٍ ودمٍ على ناموس الحياة؛ إلا إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموسٍ أقوى من الحياة.
ولم يكن مثله - صلَّى الله عليه وسلم - في الصبر والثبات، واستقرارِ النفس، واطمئنانها على زلازل الدنيا، ولا في الرحمة ورقةِ القلب والسُّمُوِّ فوقَ معانِي البقاء الأرضيِّ، فهو قد خُلِق كذلك ليغلب الحوادث ويتسلط على المادة، فلا يكون شأنه شأنَ غيرِهِ منَ الناس: تَدْفِنُهُم معاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يَحُدُّهُمُ الجسمُ الإنسانيُّ من جميع جهاتهم بحدودِ طِباعه ونَزَعاته، وبذلك فقد كان - عليه الصلاة والسلام - مَنْبَعَ تاريخ في الإنسانية كلِّها دائمًا، ولِرَأْسِ الدنيا نظام أفكاره الصحيحة.
عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((انطلق ثلاثة رهط[9] مِمَّن كان قبلكم، حتَّى أَوَوُا المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرتْ صخرة منَ الجبل فسَدَّتْ عليهمُ الغارَ، فقالوا: إنه لا يُنْجِيكُم من هذه الصخرة؛ إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أغبق قبلهما أهلاً ولا[10] مالاً، فنأى[11] بي في طلب شيء يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبُوقَهُمَا، فوجدتهما نائمَيْنِ، فكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي، أنتطر استيقاظَهُما حتى بَرَقَ الفجر[12] ، فاستيقظا فشربا غَبُوقهما، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففَرِّجْ عنا[13] ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج)).
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وقال الآخَرُ: اللهم كانت لي بنت عمٍّ كانت أحبَّ الناس إليَّ، فأردتُها عن نفسها[14] فامتنعت مني، حتى ألمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذا قدرتُ عليْها قالتْ: لا أُحِلُّ لكَ أن تَفُضَّ[15] الخاتَمَ إلا بحقِّهِ فتَحَرَّجْتُ[16] منَ الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافْرُجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصخرةُ غيرَ أنهم لا يستطيعون الخروج منها)).
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((وقال الثَّالثُ: اللَّهمَّ إنّي استأْجَرْتُ أُجَراءَ فأعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ؛ غير رجل واحد تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فثمَّرتُ[17] أَجْرَهُ، حتَّى كثُرَتْ مِنْهُ الأموال، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أَجْرِي، فقلت له: كلُّ ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلَّهُ فاستاقه فلمْ يترك شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافْرُجْ عنَّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)). انتهى الحديث.
وأنا فلستُ أدري أهذا هو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتكلَّم في الإنسانية وحقوقها بِكلام بيِّن صريح لا فلسفةَ فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربِّه منَ الدين؛ أم هي الإنسانية تَنْطِقُ على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرةً فيه إلى الرموز، واضعة إنسانَها بين شِدَّة الطبيعة ورحمة الله، مُحَكِّمَةً عناصر روايتها الشِّعْرِيَّة، مُحَقِّقَةً في بيانِها المكشوفِ أَغْمَضَ معانِيها في فلسفةِ الحاسَّة الإنسانية حين تتَّصل بأَشْيائِها فتظهر الضرورة البشرية، وتختفي الحِكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها، فتظهر الحكمة وتختفي الضرورة، مُبِينَة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقَرِّرَة أنَّ الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذَّتِه، ولا فيما يُنجِح من أغراضه، ولا فيما يُقنِعه من مَنْطِقِهِ، ولا فيما يَلُوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السُّمُوُّ على هذه الحقائق الكاذبة كلِّها، وهي الرحمة التي تَغْلِبُ على الأَثَرَةِ فيُسَمِّيها النَّاسُ بِرًّا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيُسمّيها الناس عِفَّة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لَثَلاثٌ من الحواسِّ: حاسة الدَّعَة، التي يقوم بها حظُّ الخُمُول، وحاسَّة اللَّذَّة التي يقوم بها حظُّ الهوى، وحاسة التملُّك التي يقوم بها حظُّ القوة.
وتَزيد الإنسانية على ذلك في نَسَقِ شِعرها أنها تُثبِت أن البِرَّ من العِفَّة والأمانة هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمَن نشأ على بِرِّ أبويه كان خَلِيقًا أن يتحقق بالعِفَّة والأمانة، وأن العِفَّة من الأمانةِ والبِرِّ هي مِساكُهُما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانة من البِرِّ والعِفَّة هي كمال هذه الفضائل، وكلُّهن درجاتٌ لحقيقة واحدة؛ غيرَ أنَّ بَعْضَهَا أَسْمَى من بعض في الشأنِ والمَنْزِلَةِ، وبعضها طريقٌ لبعض يَجُرُّ سببٌ منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وَحْدَها الحقيقةُ الكبرى، إنَّما هي هذا الحبّ بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحبّ الخاصّ؛ ثم من المُحِبُّ لحبيبته وهو الحبُّ الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحبّ مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجِئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجاتٌ كدرجات الحياة نفسها من طفولتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل.
ثُمَّ إنَّه ما دام كمالُ الفضيلة هو الأمانةَ، فما قَبْلَهَا أنواعٌ منها؛ فَبِرُّ الولد أمانة الطبع المتأدِّب، وعِفَّة المحبِّ أمانة الكريم، والثَّالِثة أمانة الخُلُق العالي وهي أسماهُنَّ؛ لأنها لن تكون خُلُقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبعُ والقلب، ودخل في أسبابها الأدبُ والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم أو قريب، ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب.
ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول: إنه فعل ما فعل من صالحِ أعمالِهِ إلا (ابتغاء وجه الله) وقد تطابقوا[18] جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدقِّ ما في فلسفة الإنسانية في شِعرها ذلك؛ فإن معناها أنَّ الرجل في صالحِ عملِهِ إنما كان مجاهدًا نفسَه، يمنعها ما تحرص عليه من حظِّها أو لَذَّتها أو منفعتها؛ أي: منخَلِعًا من طبيعته الأرضية المنازِعةِ لسِواها المنفردةِ بذاتها، متحقِّقًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيرَهُ؛ أيِ: اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونته كفّ أذاه.