فلسفة المقاومة في الأدب الفلسطيني
أردنا في هذا الملف أن نختار زاوية بعينها لتتناول فلسفة المقاومة في الأدب الفلسطيني، وكان هناك أكثر من شارة حمراء في وجه ما نريد، فهل نقصد أدب المقاومة في عصر ما على امتداد هذه المقاومة التي قاربت القرن؟ أم ندلف إلى التخصيص أكثر فنشير إلى عصرٍ بعينه؟ فإن فعلنا فهل نطلب الحديث عن : جدل الحياة والموت في الأدب الفلسطيني ؟!، أم نحدد مثلاً البعد الوجودي في الأدب الفلسطيني ؟! أم تجدنا أمام الحرية في الأدب الفلسطيني ؟
ارتأينا أن نضع هذا الملف في عددين متتاليين، بحيث نترك في العدد الأول وهو هنا هذا العدد الحزيراني الطريق سالكة أمام مشاركات تأتينا كما تهوى التحديد بنفسها لنفسها، سواء أجاءت تعليقاً على مادة بعينها أم جاءت عامة كما تهوى، على أن نسأل في جزء الملف الثاني من الشهر القابل أسئلتنا المحددة مرحبين بما سوف يدلف إلينا جواباً عليها وفي إطار ما تسأل عنه….
أما هذا الشهر فهذه هي المشاركات الواصلة إلينا نضعها بيمن يديك عزيزي القاريء:
المشاركة الأولى
جذور الهوية الفلسطينية
بقلم: السيد نجم
"بيت من ورق" رواية قصيرة للروائي "رافع يحيى". ولد عام 1966م, عاش في قريته "اكسال" وكتب القصة القصيرة والرواية وقصص الطفل, ينتمي إلى عرب إسرائيل, وهو ما يعطى لتلك الرواية نكهة خاصة, وربما مثيرة إلى حد التساؤل حول الكثير من المحاور..ربما في مجملها, أين "فلسطين" في كتابات "عرب إسرائيل"؟؟
نشرت الرواية عام 1996م, أي قبل الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة, وهى بذلك تعبر عن وجهة نظر: عربي, اسرائيلى الجنسية, لم يشهد عام النكبة, ربما تفتحت عيناه مع أحداث معارك عام 1973م, يعيش حتى تاريخه تجربته الخاصة/العامة والتي قد تعبر عن 20% من سكان إسرائيل اليوم, أو حتى تعبر عن ذاته..لا يهم, لن نصدر أحكاما, يكفينا العمل ودلالاته.
تبدأ الرواية بالتساؤل الساخر: هل الحياة كاريكاتيرا واحدا كبيرا؟ يقولها "عيسى" بائع البطاطا والمناضل القديم في معسكرات اللاجئيين على الأرض اللبنانية. ليبدأ العمل.."اليوم الجمعة.يجب أن أذهب إلى العيادة لإجراء فحص طبي.الذهاب إلى العيادة يغضبني.." ص7 . "لقد قطعت على نفسي أن أكون وردة "جورية" متفتحة دوما..تعجبني عبقرية الورود".." الحر شديد في الغرفة (الضيقة التي يعيش فيها مع زوجته آيات وأولاده الشاب براق والطفلة نيروز), أريد بيتا من ثلاث غرف وصالون نستقبل فيه الضيوف ومطبخ ومرحاض" ص9. "ماذا سأفعل؟ هل بيع البطاطا سيغير وضعنا؟" ص9. الحل المتاح أو الممكن "سأذهب إلى البحر..سأختار طريقا خاليا من ناطحات السحاب والفيلات. ما الذي يميز البيت عن القبر أو السجن؟؟ لا شيء.. نفس مواد البناء والصانع هو الإنسان." ص10.يبدو حلا رومانسيا أو حتى هروبيا, حل يعبر عن قلة الحيلة والحيرة. "قال جدي ذات مرة, البحار الحقيقي هو الذي يفضل الموت وهو يصارع "القرش" أو أي عارض مفاجىء في البحر, على أن يراه الناس عائدا إلى الشاطىء يرتجف من الخوف فوق قاربه" ص10. ليعلق عيسى "كنت أجلس أمامك كما يجلس الباحث أمام عبقرية الحضارة". وهى رؤية تاريخية تبحث عن الجذور. بتابع عيسى شكواه من ابنه براق أو (الحفيد الذي يبدو طموحا, وكل طموحه أن يركب سيارة فولفو) ص11. لنتوقف أمام تعليق "عيسى الهام: "يتصرف –يعنى الابن- وكأنه مقطوع من شجرة الأجداد", مع ملاحظة أن الابن بلغ العشرين, "انه لا يختلف في سلوكه عن أبناء جيله" ص12. إننا إذن أمام جيل مختلف في رؤيته وطموحاته, وهو ما يعد رصدا وتسجيلا هاما, خصوصا لو أدخلنا الرواية ضمن دراسات سوسيولوجي الأدب. وكما تابع "عيسى" رأيه في ابنه, تابع مع طفلته "نيروز": "صرت أخاف على كل بنات البلد, إنهن يركضن نحو (الزيف), كما يركض جناح الفراش إلى لهيب النار..ألا يدرى كل هذه الأجيال أن كل ما يأتي به الغرب مثل القبر, من الخارج رخام ومن الداخل سخام"ص12.
أما وقد قرر "عيسى" الذهاب إلى السوق حيث يبيع البطاطا, لتنحو الرواية منحى آخر, يكشف عن جوانب لم نكن نعرفها. يبدأ بحواره مع زميلة الشقاء "أم وديع", المرأة التي أوجزت الفترة السابقة في جملة:"الدنيا أخذت منك شبابك, وأخذت منى "وديع" ص13. فلما بحث عن السبب وجده "الاستعمار". أرجعه إلى مصطلح يبدو الآن غامضا وان كشف عن قدر التورية التي قد يعنيها "عيسى".."السبب هو الاستعمار.. طالع نازل فينا مثل المنشار, الله يخرب بيته.. هو الذي يسرق خيراتنا بجشع, انه يركبنا" ص14. لكن ترى ما هي مأساة "عيسى"؟ عادت أم وديع وأوجزتها بقولها: "أنت الذي علم الناس كيف يقفوا كالمتاريس في وجه الظلم. حرمت من شبابك, وفى الآخر رموك في الشارع تبيع نطاطا" ص15.. "نسيوك.. نسيوك ياعينى" ص16.
وفى منحى آخر من الرواية, يتذكر "عيسى" أن اليوم هو عيد ميلاد زوجته المخلصة الصابرة, التي تعمل في مصنع الخياطة. إنها تحب الورد, لكن "ثمن الورد مقابل الخبز" ص21. لكنه قرر "فضلت الورد على الخبز" ص21. حمل الورد في يده, وحمل القلق في صدره, أمام المخبز كانت السيارة تمتلىء بالخبر, وهو في حاجة إلى ثلاثة أرغفة..لزوجته ولابنه وابنته, لكنه لم يسرق من قبل.."يا عيسى أنت أكلت فئران في أيام الحصار, لكنك لم تمد يدك ل…"ص23.. "أستحرق شرف خمسين عاما قضيتها في الكفاح "ص23. أخيرا سرق الخبز, ثلاثة أرغفة فقط, ليس له, بل لزوجته وأولاده.."يكفيني ثلاثة أرغفة..أنا سأظل جائعا ..لا أصدق نفسي. لقد تناولت ثلاثة أرغفة" ص24.
في المقابل كانت زوجته تمارس البطولة والمقاومة الحياتية اليومية, عندما قالت لزوجها عيسى: "أنا لست حزينة لكنى أتمنى أن أشق لحم الليل بحراب أحلامي حتى أرى ما أريد", فسألها عيسى: "وماذا تريدين؟" قالت: "أريد الشمس والخبز والحرية" ص26 وطال الحوار بينهما, في موضع لاحق قالت لزوجها عيسى: "لا تستهن بنفسك.. أنت صخرة أصلب من كل الصخور ".. "عندما يكون البيت خاويا من الخبز تفتح أبوابه أمام كل ما هو متمرد على النواميس البشرية" ص27 ومع ذلك شعر الزوج أنه لم يجلب السعادة بالأرغفة التي سرقها.."أدركت أن فكرتي لم تجلب السعادة لآيات..فتناولت قلما من علبة ألوان "نيروز" وكتبت على الزجاجة (الورد باق في بيتنا)..فضحكت الزوجة. ص29..هكذا تبدو الأحلام في حياة جديدة, سعيدة وكريمة, نجدها في كلمات تكتب.
أما وقد استيقظت الطفلة في الصباح, توقظ الأب كي يرسم لها جملا, وهى لا تعرفه, بل سمعت عنه!..لأنه يشبه أباها في صبره, يفضل الأب أن يطلب منها طلبا آخر: "ارسمي بيتا كبيرا وحوله أزهار وأمامه ساحة كبيرة ووراءه برج حمام, وبركة صغيرة يسبح فيها البط." ص30.. ولعل تلك الوقفة السريعة بين الأب المكافح القديم والابنة توجز ويفسر عنوان الرواية "بيت على الورق". ثانية تبدو الحياة مجموعة كلمات أو حتى رسامات, لا أكثر.
في منحى انسانى انتقل الروائي إلى جانب خفي لم يكشف عنه من قبل, وان وظفه لتفسير وشرح ما أوجزه سلفا. لقد قابل الصديق القديم "إبراهيم", أوضح له معاناته وشظف العيش الذي يعيشه.. إلا أن إبراهيم استقبله بخبر طريف دال, أن الجميع يؤكدون نبأ موت "عيسى"!! تلك الشائعة التي أطلقها "نديم" رفيق الكفاح والخندق يوما ما!!.."أنا ونديم حاربنا في خندق واحد" ص33. اللافت للانتباه أن صاحب الإشاعة هو رفيق الحصار والكفاح, ولا يخو الموقف من الدلالة الواضحة, تأكيدا للإحساس بالغياب وقلة الحيلة. بدت القضية صعبة, أن يثبت أنه مازال حيا, أمرا شاقا وربما مستحيلا, حتى أنه قال: "لإثبات أنني حي مسألة صعبة تحتاج إلى كامب ديفيد أو أوسلو ".. لكن إبراهيم هون عليه واقترح أن يظل عيسى يصيح بطاطا.. بطاطا..فعلق عيسى:"يعنى أكون أو لا أكون مسألة مرتبطة بالبطاطا؟" ص34 عندما ذكرت تلك الكلمات "كامب ديفيد وأسلو" علق إبراهيم ساخرا: "الناس نسيت هذه الكلمة ولا تعرف معناها" ص35 عاد وأوجز تجربة صديقه "عيسى": " يا خسارة يا عيسى..كل أحلامك طارت بالهواء كالفقاعات" ص35 هل نتساءل حول دلالات بعيدة تربط بين واقعة إشاعة موت عيسى, وحقيقة عجز اتفاقيات "كامب ديفيد وأسلو" في حل المشكلة الفلسطينية..ربما.
وقد عرض الروائي لجملة علاقاته مع أصدقائه القدامى والجدد. "نادر" الشاب الذكي والحاصل على المؤهل العالي ناقم على الأوضاع من حوله.. "إن هذه حبر على ورق ولا يناسبها اسم صحيفة" ص37. ولا يجد عملا, فيقول: "لقد صرت أؤمن أنه في الليل كل البقرات سوداء"ص39. وقرر العمل في البحر صيادا. هاهو ذا "عبدا لكريم البيروني" الشاب الأسطورة, الذي يبدو ناعم الملامح, ولا يشي بما فعله فيما بعد, حيث تحولت جثته إلى أشلاء وطعاما شهيا لقطعان النمل. بدوره حصل على المؤهل ولم يجد عملا, فتطوع جنديا في الجيش.
لم يكن "براق" الابن الصامت الغامض سوى نموذج آخر لضياع الأجيال الجديدة..فهو كتوم لا أحد يعرف عما يفكر, ويبدو كأنه يعيش في الخفاء..كل ما حرص عليه الأب (عيسى) أن قال له محذرا: "فقط لا تقم بعمل يجعلني أشعر بالعار لأني أبوك!" ص46. وجاء الرد أو السلوك الذي يخشاه الأب في ص78 حيث "قطعت الصدمة لساننا". ترى ما هي الصدمة ولماذا؟؟ بدأت الصدمة عندما زار "عيسى" صديقه المقاول "أبوعلي", طلب المقاول أن يتعلم عيسى حرفة النقاشة, وأن يعمل معه, فالعمل الجديد أكثر ربحية.."صاحب صنعة مالك قلعة"ص53. وبدأت علاقة جديدة بينهما. بدأ العمل في أحدى الفيلات, "كانت بانتظاره فتاة في العشرين من عمرها, جميلة, تخيلو لو كان هذا البيت لي" ص57 إنها مهاجرة, شابة, وجودها له مفعول غامض في حضور "عيسى", "لن تعينني الأبجدية على وصف الواخزات التي يوجهها إلى موقعها"ص60 أما وقد تحدثت الجميلة عن البحر ورغبة "أبوعلي" للجلوس إليه, خشي أن يتحدث أبوعلي عن الخنادق.ابتسمت وقالت (بالعبرية) المكسرة: "أنت تعمل دائما مع أبوعلي, أبوعلي هذا يحب البحر..مجنون.. دائما يجلس أمام الموج".ص63 فيما بعد أحضر عيسى زوجته كي ترى الشقة التي يعمل في طلائها, فعاش مع آيات لحظات من وراء ستائر الدنيا". ما حدث أذهل الجميع..عيسى والقارىء معا..! توالى غياب الولد "براق", فلما سألوه, قال: "لا تقلقوا سأعود متأخرا الليلة سأمضيها عند صديقي" ص70 لكن, "صوفيا تريد الزواج من عربي (أي المهاجرة الشابة ترغب فيه)ص71. فقال عيسى: "هناك من أخبرها بأن العرب قد يقتلونها إذا علموا بأنها ستخطف ابنهم!!!
هل لنا أن نتساءل عن جذور الهوية الفلسطينية؟ نعم, كشفها وفعلها الروائي من خلال.. تاريخ حياة "عيسى" النضالي, وعلى الرغم من كل الصعوبات مازال يناضل من أجل حياة أفضل. تاريخ "الجد"..رؤيته وأفكاره, بل وكينونته التاريخية, في مقابل الحفيد "براق" الطموح الذي يبدو وكأنه بلا جذور..فشعر الأب أن ابنه تائه, بل وعبر عن خوفه من ضياع مستقبل الطفلة "نيروز". لعل الزوجة "آيات"..في تحملها وصبرها, سواء بالعمل في مصنع الخياطة, وفى رعايتها لبيتها, يعد تأكيدا لصمودها. تتعدد الوقائع والأحداث داخل العمل لإبراز هذا الدور المقاومى, المتمسك بكل القيم الأساسية, التي هي من جذور الأجداد على الأرض الفلسطينية. أما الأصدقاء "نادر", و"عبدا لكريم", فلكل منهم حكاية تعبر عن الصمود العملي حتى الموت لتأكيد معنى التمسك بالقيم العليا. وان بدا "إبراهيم" أو"ابوعلى" على الصورة المناقضة إلى حد ما..فلإبراز الفكرة الأصيلة, ولأن الرواية لا تغفل الواقع والوقائع. ثم الأطفال الأبناء.."نيروز" ترى في والدها صبرا وصمودا كما في "الجمل" الذي لا تعرفه تماما.. و"براق" وهو ذروة التمرد على مفاهيم الأب, يبدو غامضا..شاردا..ولعله غير سعيد بتعرفه على المهاجرة الشابة التي ترغب في الزواج من عربي.. لكنه سائر على طريقه. ولا يفوتنا الاشارة الى دلالة الاسم للأطفال "نيروز وبراق", إن كان الاسم من صنع الأب "عيسى" المناضل القديم, فهم كبشر من صنع واقعهما ومحصلة أفكار عدة ومؤثرات مختلفة.
تعد الرواية على قصرها..دالة, بل وهامة لكل من يهمه رصد وجهات النظر والأفكار العامة والخاصة في الأدب الفلسطيني المقاوم.. خصوصا في جنس الرواية.
المشاركة الثانية
مجموعة " القلادة " والأدب المقاوم للقاصة الفلسطينية بشرى أبو شرار
بقلم:شوقى بدر يوسف
منذ رحيل القاصة الفلسطينية الرائدة سميرة عزام فى الثامن من أغسطس عام 1967 ، أى بعد حدوث نكسة يونيو بشهرين تقريبا، وسقوط رقعة كبيرة من الأرض العربية فى يد العدو الصهيونى، والقصة القصيرة التى تكتبها الكاتبة الفلسطينية بوحى من الإشكاليات والقضايا اليومية الساخنة لهموم الوطن السليب والأرض المحتلة تحظى بحضور كبير ومتميز فى الساحة الأدبية العربية، كما أنها تعتبر أحدى الروافد الأدبية الهامة التى تفرض نفسها على الأدب القصصى والروائى الفلسطينى والعربى على المستوى العام والخاص، حيث مساحة الوطن والنضال، ومساحة المنفى والمعاناة اليومية الآنية تقتسم صلب الهموم الحياتية لأفراد الشعب الفلسطينى فى كل أنحاء الوطن والشتات على السواء .
فلم تكن أعمال الكاتبات الفلسطينيات سميرة عزام وثريا ملحس و سحرخليفة وليانة بدر وسلوى البنا وليلى الأطرش ونداء خورى ونعمة خالد وغيرهن من الكاتبات الفلسطينيات فى مجال القصة القصيرة والرواية إلا إستجابة لواقع ما يعيشه الشعب الفلسطينى فى مرحلته الراهنة من معاناة يومية لممارسات البطش والأغتيال والقهر والقمع والمداهمات المستمرة التى يقوم بها الأحتلال الأسرائيلى فى الأرض المغتصبة، ولا شك أن طغيان الإحساس بسطوة البطش الواقع عليه من سوء المعاملة الغير إنسانية لكل ما هو فلسطينى وعربى، كذلك قسوة الحياة معه فكريا ونفسيا واجتماعيا، كل هذه الأمور قد أعطت لهؤلاء الكاتبات وللأدب الفلسطينى مادة خصبة و ثرية للتعبيرعن جوهر الواقع الذى يعيشه، والجوانب المتعددة للثورة التى يجيش بها قلب وعقل الإنسان الفلسطينى والعربى العائش والمتوحد مع القضية الحائرة شاء أم لم يشأ، إضافة إلى عامل مهم له خصوصيته يتمتع به الأدب الفلسطينى بصفة عامة وهو عنصر المقاومة والمواجهة مع العدو المغتصب، حيث يسعى الأدب الفلسطينى بجميع مجالاته ومحاوره وأجناسه إلى إثبات الشخصية الفلسطينية القومية، والحفاظ على معالمها، وهويتها الحقيقية، ومحاولة إيقاظ الوعى فيها وهو الجانب الذى يحاول العدو الأسرائيلى مواجهته ومحاربته، وطمس معالمه، والتعتيم عليه بشتى الوسائل حتى أنه لجأ فى كثير من الأحيان إلى تصفية العديد من رموز هذا الأدب مثال غسان كنفانى وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغيرهم من المبدعين المناضلين الفلسطينيين .
ولا شك أن مجموعة " القلادة " للقاصة الفلسطينية بشرى محمد أبو شرار وهى المجموعة القصصية الثانية، التى أعقبت صدور مجموعتها الأولى " أنين المأسورين " تعتبر إضافة جديدة للقصة الفلسطينية القصيرة المعاصرة التى تعالج الهم الفلسطينى المقاوم، وتجسد التوهج والأشتعال الذى يصوغ الحياة الفلسطينية بكافة توجهاتها وأبعادها وهواجسها الإنسانية، حيث تطرح الكاتبة فى هذه المجموعة وفى مجموعتها السابقة " أنين المأسورين " بل وفى أعمالها التى صدرت بعد ذلك، فى مجموعة " جبل النار " ورواية " أعواد ثقاب " شباب القضية وعنفوان فتوتها من خلال مجموعة من المواقف النضالية، والإيحائية التى تقضى بوجوب الوقوف أمام تيار التعنت والقهر والعسف الصهيونى فى شتى أشكاله بكل قوة وحزم ، من خلال تجسيد روح المقاومة، وأبراز الوجه الحقيقى للإنسان الفلسطينى الملتحم مع أرضه وبندقيته وذاته، كذلك فإنها تتكأ فى بعض قصص المجموعة على الجانب الأجتماعى المتوحد والممتزج مع الشخصية الفلسطينية التلقائية فى أدق دقائق حياتها الخاصة، وإنعكاس ذلك على ممارساتها ومواقفها الأجتماعية فى المنزل والسيارة والشارع والمخيم، كما أن قصص بشرى أبو شرار تأتى أيضا كأمتدادا طبيعى لبعض الإبداعات القصصية لشقيقها الشهيد ماجد أبو شرار الذى اغتالته يد الصهاينة فى التاسع من أكتوبرعام 1981 فى روما أثناء حضوره مؤتمرا عالميا للتضامن مع الشعب الفلسطينى، ويعتبر ماجد أبو شرار أحد كتاب القصة القصيرة الفلسطينية الذين بصموا هذا الإبداع ببصمة التميز والتفاعل مع القضية الفلسطينية بكل أبعادها وتوجهاتها، وقد صدرت له مجموعة " الخبز المر " فى بيروت عام 1980، والقارئ لقصص بشرى أبو شرار سوف يعثر بطريقة أو بأخرى على هذا الزخم من التفاعل مع القضية ومع الشخصية ومع الموقف المعبرعن الذات الفلسطينية المؤمنة بقضيتها والساعية بشتى الوسائل للتعبير عنها إنطلاقا من المحاولات الجادة لترسيخ معالم فن القصة القصيرة فى الأدب الفلسطينى وهو أمر ضرورى للمحافظة على الهوية القومية للذات الفلسطينية من خلال إطلاق عنان القلم الفلسطينى المتوازن فى مقاومته وتوجهاته مع البندقية والمدفع والرصاصة الفلسطينية على الأرض المحتلة . ولعل الكلمة التى أجتزأتها الكاتبة من رواية الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط " وصدرت بها مجموعتها يعطينا من الدلالات والتأويلات عما تحويه هذه المجموعة من معانى تتحدث عن سجن الواقع وقهر الذات وقمع الحياة فى منطقة شرق المتوسط، وقد عبرت هذه العبارة خير تعبير عن نفس السجن القمعى الكبير الذى عبرت عنه الكاتبة فى نسيج قصصها، يقول عبد الرحمن منيف فى هذه الجزئية : " لا أريد أن أكون نبيا أو أنوب عن الآخرين فى البحث عن طريق المستقبل، لكن مثلما علّم ديكارت الفرنسيين فى أوربا أشياء أساسية، خاصة فى المنهج .. فأعتقد أن أعظم وأهم ما علمهم كلمة تفوق كل الأشياء .. علمهم كلمة لا .. ! " ص (4) .
ففى قصة " القلادة " التى حملت عنوان المجموعة تستهل الكاتبة هذه القصة بعبارة لها دلالتها، تجئ على لسان الفتاة الفلسطينية الراوية الواقفة مع أمها فى هذا الطابور الطويل ينتظران دورهما لفحص هويتهما للمرور من هذا المخفر الحدودى البغيض : " أقف الآن خلف الحاجز الزجاجى .. تجلس خلفه تحدجنى بنظرة تكاد تنتزعنى من مكانى " ص (7) . هذا هو الحد الفاصل بين الفلسطينية صاحبة الهوية، وبين المجندة الأسرائيلية المشرفة على هذا الموقع والتى تمسك بتلك الهوية الفلسطينية وتحاول أن تتحكم فيها . إن هذا الموقف القمعى الذى يتعرض له الفلسطينيون كل يوم ، بل كل لحظة من خلال عمليات التفتيش الذاتى عند المواقع الحدودية هو محور قصة " القلادة " وهو الذى يجسد مظاهر القمع والقهر الواقعة عليهم من جانب السلطة الأسرائيلية الغاشمة . فهذه العجوز التى ترفض التفتيش الذاتى وتأبى خلع ملابسها وهى تنوء بحمل سنوات طويلة من عمرها قضتها فى مثل هذا العسف والقهر والتنطع الأسرائيلى تجاه تفتيش كل شئ، إنها تمثل هى الأخرى رمزا لمظهر من مظاهر التمرد الفلسطينى على العسف الأسرائيلى القائم، تقول الكاتبة على لسان : " كلمات العجوز المستعرة : لن أخلعها حتى لو خلعت من مكانى .. أموت هنا ولن أخلع ردائى أبدا أبدا " ص ( . ويبدو هنا هذا الموقف الرمزى للسيدة العجوز دلالة على تمسكها بموقفها الصلب حتى لو أدى هذا التمسك إلى خلعها من أرضها، وتتعرض الراوية أثناء تفتيشها ذاتيا إلى مصادرة قلادتها الذهبية، هدية والدها إليها ، بسبب خريطة فلسطين المرسومة عليها، كما تتعرض أمها لموقف آخر حين وجدوا معها مفكرتها وبها بعض الأرقام والرموزالخاصة، وقد صور لهم حدسهم أنها معادلات كيمائية ودوائر وأرقام لأحماض خطرة، وتم التحقيق مع الأم، وعندما أخلى سبيلها كان المعبر قد أغلق . وعادا من حيث أتيا بعد أن رفضت الأم أن تركب مركبة عسكرية أسرائيلية تقلهما إلى الداخل ، فخرجا من المعبر حيث وجدا هذه المرأة العجوز التى رفضت التفتيش قابعة تقبض على غطاء رأسها الأبيض المتدلى ، بينما الأم تمسك مفكرتها التى أنكرتها وهى غير مصدقة لما حدث، كما تتحسس الراوية صدرها وتضع يدها مكان " القلادة " المنهوبة . إنها المعاناة اليومية التى تتصدر الحياة الفلسطينية .
وفى قصة " مداهمة " تتجسد لحظة صادمة هادرة تتجمع لتقوض آمن هذه الأسرة الفلسطينية التى فاجأتها السلطة العسكرية الأسرائيلية فجرا لتأخذ الأبن " على " إلى معسكر " أنصار 7 " الذى يساق إليه الشباب، ويعرفه الجميع لشراسته وبطشه وسطوته الغاشمة، لقد شلت المفاجأة الأب والأم لهذه الزيارة الغاشمة الغير متوقعه، فكان تعبير الأم تعبيرا يمتزج بالحزن الهائل لدرجة أنها أخذت منديل زوجها وجعلت تفركه بين راحتها ثم تكز عليه بأسنانها حتى لا تدوى صرختها فى فجر " غزة " الحزين ، أما الأب فكانت لهفته على ولده تفوق كل تحمل : " أفاق الأب من صدمة أرتطامه ، فعاود النهوض مرة أخرى يلقى بجسده المتهاوى ليلف به " على " ولكنه هوى .. وكان " على " فى لحظة خارج الدار، يداه خلف ظهره وجوال أسود القى على هامته المرفوعة ليكتسى به وجهه " ص (17) . وعندما أفاق الجميع من هذه الصدمة العنيفة التى فاجأتهم واستلبت منهم فى هذه اللحظة المشحونة بالتوتر العنيف واقع الحياة كلها وتقول الكاتبة على لسان الأم المنكوبة : " أنسلت منه تردد كلماتها المنهوكة :
اليوم بات غدا .. هيا بنا .. لا وقت لدينا نضيعه .. يجب أن أعثر على " على " وأعرف إلى أى طريق ساقوه ..!! " ص (17) . إن تجسيد هذا المشهد المآسوى لمثل هذه المداهمات بتوتره المفاجئ ومظاهر القلق والعسف الناطقة بقسوة مفاجأته، والتى كثيرا ما تروع الأم والأسرة كلها فى مثل هذا الوقت من الليل هى ثيمة تكررت فى كثير من القصص الفلسطينى، إلا أن الكاتبة كانت موفقة إلى حد كبير فى تجسيد هذا الموقف الطاغى المآسوى للقطة القصصية التى إنتخبتها من كثير من اللقطات القصصية المشابهة معها فى المضمون .
اليوم بات غدا .. هيا بنا .. لا وقت لدينا نضيعه .. يجب أن أعثر على " على " وأعرف إلى أى طريق ساقوه ..!! " ص (17) . إن تجسيد هذا المشهد المآسوى لمثل هذه المداهمات بتوتره المفاجئ ومظاهر القلق والعسف الناطقة بقسوة مفاجأته، والتى كثيرا ما تروع الأم والأسرة كلها فى مثل هذا الوقت من الليل هى ثيمة تكررت فى كثير من القصص الفلسطينى، إلا أن الكاتبة كانت موفقة إلى حد كبير فى تجسيد هذا الموقف الطاغى المآسوى للقطة القصصية التى إنتخبتها من كثير من اللقطات القصصية المشابهة معها فى المضمون .
وفى قصة " وبرعمت دوالى العنب " وفى وسط هذه الحميمية التى يتمتع بها الفلسطينيون فى أدق لحظات أزماتهم .. ومن خلال هذا الدفء الطاغى الذى يحيط بأسرة فلسطينية بسيطة تعيش على الحقيقة المرة، حقيقة الأحتلال والبطش والمداهمة المتوقعة فى أى لحظة، يحضر أبو عصام وزوجته على استحياء شديد لمقابلة رب الأسرة ، بعد أن هدمت الجرافات منزلهما ، وأطاحت بأحلامهما ، ويطلب أبو عصام من رب هذه الأسرة تأجير الملحق الموجود لديهم بالحديقة لمدة شهور لحين تدبير الأمر، وبدون تردد يوافق الأب وبدون مقابل وسط دهشة الجميع، وتغرق أم عصام فى دموعها من فرط حساسية الموقف وشدة تأثرها لهذا النبل الفلسطينى الأصيل، وهذه التضحية الغالية التى ما كانت تتوقعها بهذه الطريقة ، فقد كان منزلها يحتل موقعا آثيرا فى حياتها ولم تكن تتخيل يوما ما أنه سيهدم ويصبح ترابا أمام عينيها وبهذه الطريقة الهمجية وأنها ستفارقة بهذه الطريقة البشعة الغاشمة . " : بدأت تستفيق على كلمات تسردها أمامنا :
يومها تهاويت بجسدى فوق الردم احتضن البقايا المتناثرة .. فناجين قهوتى أخذتها الأرض وغارت بها .. فرشاتنا طمسها التراب وعفرة أخذت أنفاسنا معها .. صورة أبى وأمى تكسر إطارها ، تفتت زجاجها تمزقت .. حاولت أن أفتش عن بقاياها ولكن دموعى حالت بينى وبين العثور على أى شئ أبغيه فوق الردم " ص (21) . وفى وسط هذا الهدوء المدوى الذى سارت فيه حياة الأسرتين ( أسرة الراوية وأسرة ابو عصام المكونه منه ومن زوجته ) يختلط الزمن باللحظات الصعبة المريرة التى تفاجئ الفلسطينيين فى أى مكان وزمان، حين تحضر قوة من الجيش الأسرائيلى فى مداهمة من مداهماتهم اليومية، لا لتأخذ أبو عصام الذى هدمت الجرافات منزله، ولكن لتأخذ هذه المرة رب الأسرة صاحبة البيت والحديقة، وفى هدوء شديد يجهز الأب نفسه لمصاحبة القوة الأسرائيلية ، وكأنه كان يعرف أن هذه اللحظة لا شك آتيه لا ريب فيها، فيحلق ذقنه ويغتسل أمام دهشة زوجته وأولاده، ويحاول العم أبو عصام أن يحتضن بيداه المرتعشة الأولاد : " ورحلت عيوننا نحو الشمس التى بدأت تزحف وسط سماء الأرض .. فأمل عودة أبى لا زال متوهجا ساطعا " ص (29) . القصة تسرد لحظات مآسوية يمتزج فيها الخوف بالأمل، والحياة بالصراع ضد قوى الشر والبغى الذى ليس لها سوى قهر الأبرياء والأعتداء على حرياتهم .
يومها تهاويت بجسدى فوق الردم احتضن البقايا المتناثرة .. فناجين قهوتى أخذتها الأرض وغارت بها .. فرشاتنا طمسها التراب وعفرة أخذت أنفاسنا معها .. صورة أبى وأمى تكسر إطارها ، تفتت زجاجها تمزقت .. حاولت أن أفتش عن بقاياها ولكن دموعى حالت بينى وبين العثور على أى شئ أبغيه فوق الردم " ص (21) . وفى وسط هذا الهدوء المدوى الذى سارت فيه حياة الأسرتين ( أسرة الراوية وأسرة ابو عصام المكونه منه ومن زوجته ) يختلط الزمن باللحظات الصعبة المريرة التى تفاجئ الفلسطينيين فى أى مكان وزمان، حين تحضر قوة من الجيش الأسرائيلى فى مداهمة من مداهماتهم اليومية، لا لتأخذ أبو عصام الذى هدمت الجرافات منزله، ولكن لتأخذ هذه المرة رب الأسرة صاحبة البيت والحديقة، وفى هدوء شديد يجهز الأب نفسه لمصاحبة القوة الأسرائيلية ، وكأنه كان يعرف أن هذه اللحظة لا شك آتيه لا ريب فيها، فيحلق ذقنه ويغتسل أمام دهشة زوجته وأولاده، ويحاول العم أبو عصام أن يحتضن بيداه المرتعشة الأولاد : " ورحلت عيوننا نحو الشمس التى بدأت تزحف وسط سماء الأرض .. فأمل عودة أبى لا زال متوهجا ساطعا " ص (29) . القصة تسرد لحظات مآسوية يمتزج فيها الخوف بالأمل، والحياة بالصراع ضد قوى الشر والبغى الذى ليس لها سوى قهر الأبرياء والأعتداء على حرياتهم .