صائد الأفاعى " الحلقة الرابعة " .. المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى .. كيف رأى السيسى الإخوان وهم يذبحون الإسلام من أجل السلطة؟
الإخوان قاموا بتسويق السيسى على أنه متدين وملتزم.. وبعد الثورة زعموا أنه عدو الإسلام
من طقوس السيسى اليومية أنه يقرأ القرآن لأمه المريضة حتى تنام ولا ينصرف إلا بعد أن يسمع دعوتها: ربنا يوقف لك ولاد الحلال
أحد أساتذته فى كلية الحرب الأمريكية: تلميذى مسلم تقى ورغم تدينه الواضح فلا يوجد أى دليل على انتمائه للإخوان
من بين ما حرص عليه سعيد حسين السيسى، تحفيظ أولاده الثلاثة «أحمد وعبدالفتاح وحسين» القرآن الكريم، قد تكون طبيعة حى الجمالية الشعبى الروحانية التى استمدها من قربه من منطقة الحسين والأزهر، هى التى دفعت الأب إلى ذلك، لكن فى كل الأحوال لم يكن ما حدث شيئا غريبا، فالأسر المصرية فى الغالب تحرص على تعليم وتحفيظ أولادها القرآن الكريم، إن لم يكن لأسباب تتعلق بالإيمان والعقيدة، فلأسباب تتعلق بأن القرآن قراءة وحفظا، يمكن أن يساعد فى تطوير لغة من يداوم عليه.
ولأن أسرة السيسى كانت من بين الأسر المتوسطة التى تمارس الإسلام على الطريقة المصرية، فكان لابد أن يجلس الأبناء الثلاثة أمام محفظ يلقنهم القرآن قراءة وحفظا، ورغم أن عبدالفتاح كان الابن الأوسط، فإنه كان الأكثر اجتهادا والأحرص على الحفظ والتحصيل من أخويه.. ومن بين نوادره أنه عندما كان يتردد على حى الجمالية، ويجالس بعض أبناء العائلات هناك، كان يمتحنهم فى مسائل الحساب ويسمع لهم ما حفظوه من آيات القرآن الكريم.
من يجالسون عبدالفتاح السيسى أشاروا لى إلى أنه يحرص على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة فى حديثه العادى، بل يضيف إلى ذلك فى مواضع كثيرة كلمات مأثورة منسوبة إلى حكماء وفلاسفة وعلماء دين مشهورين، بما يشير إلى أنه قارئ فى الدين بطريقة راقية جدا، وهى الطريقة التى تجعلنا نصف ما يقوم به على أنه رقى معرفى، فهو لا يلجأ إلى الدين من أجل الخداع، ولكن من أجل الإقناع، وربما للتدليل أحيانا على وجهة نظر معينة.
من هنا يظهر لنا المفتاح الرابع من مفاتيح شخصية السيسى.. وهو مفتاح الوسطى.
يعيدنا ذلك إلى ما قاله عنه الدكتور ياسر برهامى، نائب رئيس الدعوة السلفية، فقد أشار فى معرض دفاعه عنه بعد ثورة يونيو أن السيسى يصلى، ومن أسرة متدينة تدين الشعب المصرى.. وهو التدين الذى يظهر لنا أنه حريص على الدماء وبعيد عن سفكها.
لا نختزل الأمر عندما نصف تدين السيسى بأنه تدين وسطى، وقد يكون على وجه التحديد، هو الذى أدى به إلى الصدام مع الإخوان المسلمين، فقد رأى لديهم إسلاما غير الإسلام الذى يعرفه، رأى لديهم دينا يحرضهم على العنف والإقصاء والتعالى على الآخرين، وجد لديهم عقيدة تجعلهم يتعاملون مع أنفسهم على أنهم شعب الله المختار، وجدهم لا يتورعون عن ذبح الإسلام من أجل الحفاظ على السلطة.
اكتشاف السيسى لهذا النمط من تدين الإخوان، جعله لا يخضع لكل أشكال الابتزاز التى يمارسها ضده صبيان الجماعات الإسلامية، منهم من كفره واتهمه بأنه ارتد عن الإسلام، ومنهم من اتهمه بأنه ليس عدو المشروع الإسلامى فى الحكم فقط، ولكنه عدو الإسلام أيضا، منهم من حاول تخويفه بالله فى أكثر من موضع وبأن الدماء التى سالت ستظل فى رقبته إلى يوم القيامة، لكنه لم يهتز لإدراكه أن هؤلاء تجار دين وليسوا متدينين بحق، لا يعملون من أجل الله بل يستغلون اسمه لتحقيق مصالحهم، ولذلك فإن كل دعواتهم واتهاماتهم باطلة، لأنها وليدة الهوى وليست ابنة الحق.
إدراك السيسى لدين الإخوان المسلمين ولغيرهم من الجماعات الإسلامية لم يأت نتيجة معايشة فقط، ولكن نتيجة دراسة أيضا، فقد كان ملف التيارات الإسلامية السياسية أحد الملفات الكثيرة التى عمل عليها خلال تواجده فى المخابرات الحربية.
استمع فقط لما تحدث به عنهم فى حواره المطول مع جريدة المصرى اليوم.
قال: الإشكالية فى الأمر ودون الإساءة إلى أى أحد نابعة من البناء الفكرى والعقائدى لهذه المجموعة - يقصد الإخوان المسلمين - وبالمناسبة هذا لا يقدح فيهم، لكنه يؤثر على جهودهم فى إدارة أى دولة، إن هناك فارقا كبيرا جدا بين النسق العقائدى والنسق الفكرى لأى جماعة، وبين النسق الفكرى والعقائدى للدولة، ولابد أن يتناغم الاثنان مع بعضهما، لأنه حين يحدث التصادم بينهما تبدأ المشكلة.
يضيف السيسى: حين يتناغم الاثنان مع بعضهما «نسق العقيدة ونسق الدولة» يجب أن يصعد أحدهما للآخر، إما أن تصعد الدولة إلى الجماعة، وهذا أمر مستحيل، وإما أن تصعد الجماعة إلى الدولة من خلال التخلى عن النسق العقائدى والدينى، وهذا أمر أعتقد أنهم لم يستطيعوا فعله، لأن هذا يتصادم مع البناء الفكرى للمجموعة، وسيبقى هذا الفارق بين النسقين مؤديا إلى وضع متقاطع يقود إلى وجود مشاكل وفوارق تجعل الناس تشعر بهذا الوضع وتخرج للتظاهر.
يقترب السيسى أكثر وأكثر من توضيح مقصده، فهو يعتبر أن إسلام المواطن العادى غير إسلام الجماعة غير إسلام الدولة كلها، هناك أشياء الفرد قد يقبلها ويتعايش معها فى ظل معتقداته، ولا أحد يستطيع أن يجادله فيها، لكن فى إسلام الجماعة نحن أمام مجموعة التقت على أفكار هم أحرار فيها، لكن لا تستطيع أن تسحب إجماعها على أمر ما وتجبر الناس عليه، وهذه هى الإشكالية الموجودة فى إسلام الجماعة، لأنه لا يمتد إلى إسلام الدولة الذى هو أكثر اتساعا ومرونة، لأن حجم الاجتهاد فيه ضخم، والاجتهاد فى كل الأحوال لن يضر لأننا لو أصبنا فى هذا الاجتهاد فسنحصل على أجرين.
يدرك السيسى أكثر من غيره أن ما حدث من جماعة الإخوان المسلمين فى الحكم كان الأكثر ضررا بالإسلام، وهو الضرر الذى جاء بسبب ممارساتهم التى جعلوا من خلالها الإسلام مرادفا للقتل والدم والتدمير والتخريب.
كان طبيعيا أن يكفر السيسى بدين الإخوان المسلمين، لأنه كان دينا للسيطرة، مرسى قال له: إن الجماعة جاءت لتحكم خمسة قرون دفعة واحدة.. وهو ما جعله يدرك أن المعضلة بين مرسى والشعب نشأت من مفهوم الإخوان عن الدولة، فالأيديولوجية التى اعتمدت لبناء البلد كانت تقوم على استعادة الإمبراطورية الإسلامية، وهو ما جعل مرسى ليس رئيسا للمصريين، ولكن لأتباعه ومؤيديه وجماعته التى تدين بنفس نمط إسلامه.
لقد حاول أتباع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها اللعب على وتر التشكيك فى تدين وزير الدفاع، وكان هدفهم واضحا، أرادوا أن يصوره بأنه أيضا كان يستخدم الدين لخداع الإخوان والسلفيين حتى يتقرب منهم، ومن بين ما تم تسريبه، أن السيسى عندما كان يحضر بعض الاجتماعات مع محمد مرسى كان يقطع الاجتماعات، ويتصل بزوجته ليقول لها لا تنس أن تذكرى الأولاد بالصلاة جماعة فى المسجد، ولا تدعيهم يصلون فى البيت، كما أنه، وفى حضور بعض مشايخ السلفية، قال: إن ابنته تريد ارتداء النقاب لكنه يخشى أن تخلعه بعد ذلك، وساعتها سيغضب منها غضبا شديدا.
نشر الإخوان هذا اللغو الفارغ على مواقعهم وفى صفحاتهم مدللين به على أن السيسى كان يمارس حالة من الخداع مع مرسى ورجاله، حتى يطمئنوا له، وفى اللحظة المناسبة يضرب ضربته وهم غافلون، وأقول: إن الكلام لغو فارغ، لأنه يفتقد المنطق، فأولاده الثلاثة متزوجون ولديهم بيوتهم الخاصة وأولادهم، وليسوا صغارا حتى تذكرهم والدتهم بالصلاة فى المسجد، ثم إن ابنته خريجة الأكاديمية البحرية.. فكيف يتسنى لها أن ترتدى النقاب، ثم إن الجماعة كانت تعرف عن السيسى تدينه وحرصه على الصلاة فى وقتها، ولم تكن فى حاجة إلى دليل على ذلك.
حالة الهمجية التى تعامل بها الإخوان المسلمين من خلال التحرش بتدين السيسى لم يقع فيها أحد أساتذته فى كلية الحرب الأمريكية وهو البروفيسور ستيفن جراس، قال عنه: تلميذى مسلم تقى ولديه معرفة عميقة بدينه، ورغم تدينه الواضح، فلا يوجد أى دليل على انتمائه لتيار الإسلام السياسى أو الإخوان.
شىء من هذا قاله أيضا فرانك فيلبيس أحد زملاء السيسى فى كلية الحرب الأمريكية، يقول عنه: رغم تدينه وقيامه بالصلاة بزملائه، فإنه لم يفرض ما يؤمن به على أحد أبدا، فلم يكن أبدا متعصبا، ولكنه كان رجلا وطنيا كريما.
يتعامل السيسى مع تدينه على أنه شىء بينه وبين ربه، وهى صيغة تجعل الذين يخافون على مدنية الدولة يطمئنون إليه، فليس هو الرجل الذى يخلط الدين بالسياسة، لأنه يعرف جيدا أن خلط الدين بالسياسة سيضر الدين ضررا بالغا، وفىالوقت نفسه لن يفيد السياسة بأى حال من الأحوال.
فى إجابته على سؤال عما فعله بعد أن قرأ بيان عزل محمد مرسى فى 3 يوليو؟
قال: إنه ذهب لوالدته التى كانت فى حالة سيئة وفى حالة لا تسمح لها بأن تقرأ الأحداث، ولأنه مرتبط بها ارتباطا شديدا، فقد ذهب إليها ربما ليلتمس منها العون والروح، وكم كان دعاؤها عذبا، عندما قالت له: ربنا يحميك من كل شر.. فمن يدرى فربما ورغم أنها لا تستطيع قراءة الأحداث المحيطة بها، فإنها تعرف جيدا وتقدر الشر الذى يتربص بابنها.
هل جاءت سيرة والدة السيسى هنا عرضا؟
هل أقحمناها على حديث نقرأ من خلاله نمط تدين ابنها الذى جعله يرفض حالة التشدد المقيتة التى مارسها الإخوان المسلمين وهم يحكمون شعبا أكثر ما يزعجه هو التضييق عليه والمزايدة على إيمانه، حتى لو لم يكن ملتزما بما يكفى، وحتى لو لم يكن متدينا كما ينبغى.
الأم صاحبة كلمة سر لدى ابنها، فهو بار بها، تعيش حالة صحية صعبة، ورغم أعبائه وانشغالاته الكثيرة، فإنه رفض أن تقيم عند أحد من أشقائه، تقيم معه هو، ومن طقوسه معها أنه لا ينام أبدا إلا بعد أن يمر عليها، يجلس إلى جوار سريرها، وبعد أن يطمئن على حالتها الصحية، يظل يقرأ القرآن وهو إلى جوارها، ولا ينهى القراءة إلا بعد أن يتأكد أنها راحت فى النوم.
هو يدمج ببساطة شديدة بين رغبتها فى قراءة القرآن.. وحرصه على أن يقترب من والدته التى تخصه طوال الوقت بدعوة تحرص على أن تسمعه إياها، تقول له: ربنا يوقف لك ولاد الحلال، وهى دعوة ملازمة لكل الأمهات المصريات، يضعنها فى طريق أولادهن حتى لو كانوا كبارا بما يكفى، وحتى لو كانوا قادرين على إعادة تشكيل التاريخ من جديد بكلمة يقولونها أو قرار يصدرونه.
وسطية السيسى وقدرته على أن يكون متصالحا مع نفسه هى التى جعلته يجيد التعامل مع كبار شيوخ السلفية الذين جعلوا من أنفسهم وكلاء الله على الأرض، ويريدون أن يصيغوا حياة الناس على هواهم، وربما بما يتوافق مع مصالحهم المادية الصغيرة والضيقة والدنيئة والمتدنية.
على خريطة السيسى يظهر لنا ثلاثة من شيوخ السلفية الكبار هم أبوإسحاق الحوينى وياسر برهامى ومحمد حسان، وهؤلاء جلسوا إلى السيسى فى وقت مبكر جدا من ثورة يناير، لم يكن يعرفهم بشكل مباشر، فإدارة ملفات شيوخ السلفية كانت من بين مهام جهاز أمن الدولة، وليس من مسؤوليات جهاز المخابرات الحربية، ورغم أن المخابرات الحربية كانت تتقاطع فى كثير من الملفات الداخلية مع المخابرات العامة وجهاز أمن الدولة، فإن الفترة القصيرة التى قضاها السيسى مديرا للمخابرات الحربية قبل ثورة يناير لم تمنحه فرصة الاقتراب من هؤلاء المشايخ ومعرفة حقيقتهم.
جمعت السيسى بهؤلاء المشايخ وغيرهم اجتماعات مطولة خلال الفترة الانتقالية، ذهبوا إليه كى يعرفوه، دون أن يدركوا أنه كان يمارس معهم موهبته الكبرى فى الاستماع والإنصات وعدم المقاطعة، ثم لا يقدم بين يدى محدثيه إلا تعليقاً يمكن أن يكون عابرا.
فى مكتبه بمبنى المخابرات الحربية قابل السيسى الشيخ أبوإسحاق الحوينى الذى يحتل مكانا ومكانة عند السلفيين المصريين، وكان معه وفد من المشايخ على رأسهم عبدالله شاكر، رئيس جمعية أنصار السنة، والدكتور محمد عبدالمقصود - الذى باع نفسه بعد ذلك تماما لمحمد مرسى ووقف فى احتفال نصرة سوريا بالصالة المغطاة باستاد القاهرة، ليدعو على المعارضين للرئيس الذى كان يؤمن على الدعاء بإخلاص - والدكتور محمد يسرى والدكتور محمد عبدالسلام ومحمد حسان ومصطفى العدوى.
أشار الحوينى إلى أن السيسى تحدث معهم كثيرا فى أوضاع البلاد، لكنه لم يتطرق إلى السؤال الذى سأله وقتها لمدير المخابرات الحربية.
قال له: هل ترى أنه من المناسب أن يتقدم التيار الإسلامى الآن بمرشح للرئاسة؟
ولأن السيسى مستقيم لا يراوغ ولا يناور، قال للحوينى: لا أرى ذلك صحيحا الآن، فأنتم تحتاجون لتأهيل فى الفترة المقبلة.. فالمشكلات التى تعانى منها مصر الآن كثيرة ومعقدة، وأنصحكم بعدم التقدم بمرشح الآن حتى لا يحترق.
هل كان السيسى وقتها يقرأ الغيب؟
الإجابة لا بالطبع، لكنه كان فقط يقرأ المشهد الذى تحقق تماما، وكان هو بطله بعد أكثر من عام، لم يستجب رجال التيار الإسلامى لنصيحته، بل دفعوا بأكثر من مرشح ينتمى للتيار، ووقف السلفيون فى ظهر عبدالمنعم أبوالفتوح فى الجولة الأولى، ثم أيدوا محمد مرسى فى الجولة الثانية - رغم أنهم سعوا إلى عقد اتفاقات سرية مع الفريق شفيق - وكان أن فاز بها واحد منهم، لكنه كما تنبأ السيسى سيحترق.
استشهد السيسى بعد عزل مرسى بما قاله للحوينى، ورغم أن هلافيت الشيخ السلفى تجرأوا وقال: إنه نفى أن يكون ما قاله وزير الدفاع قد حدث، إلا أن الحوينى بنفسه وعبر بيان نشرته الصفحة الرسمية لمجلس شورى العلماء، أكد الموقف، وزاد عليه ما قاله نصا: لمست أن السيسى رجل متدين واليوم أخاطب فيه هذا الجانب.
الشيخ الثانى الذى نمسك به على خريطة السيسى هو الدكتور ياسر برهامى الذى أصبح محترف سياسة أكثر منه محترف دين، جمعته هو الآخر لقاءات كثيرة مع الفريق السيسى، لكن أعتقد أن أهمها ما كشف عنه برهامى نفسه، وكان قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية.
كان برهامى قد سعى إلى أحمد شفيق، ليعقد معه اتفاقا بأنه فى حالة وصوله إلى منصب الرئيس، لا يلتفت إلى الوراء ولا يبدأ بتصفية الحسابات، وهو ما كان يريد أن يسعى إليه لدى محمد مرسى أيضا، ومن سياق الكلام يمكن أن نشير إلى أن الفريق السيسى كان وراء هذه المساعى، تركه يذهب إلى شفيق، لكن قبل أن يذهب إلى الإخوان المسلمين، سأله: هل تضمن الجماعة؟ فرد برهامى على الفور: لا أضمنهم، ولما عرض برهامى ما لديه على الإخوان وهو أن يلتزموا بالمصالحة الوطنية ولا يعملوا على إقصاء معارضيهم قالوا له لا نستطيع أن نرد عليك إلا بعد أن نعود إلى مكتب الإرشاد، وبعد يومين فقط، قالوا له لقد اتصلنا بالجيش وأنهينا الأمر معه.
مرة ثانية يظهر السيسى وهو مدرك تماما لطبيعة الإخوان المسلمين، فهو لا يطمئن إليهم، وقد تكون وجهة نظره فيهم تأكدت عندما أخبره قطب سلفى أنه لا يثق فيهم أيضاً.
برهامى حاول أن يتقاطع مع السيسى بعد أن غربت شمس مرسى، فعلى موقع صوت السلف الذى ينشر فيه برهامى فتاويه الحديثة، أشار إلى أن السيسى الآن ليس إماما بالبيعة، ولكنه متغلب بالشوكة، ومن لم تثبت إمامته شرعا وكان متغلبا، فالتعاون معه على البر والتقوى ومصلحة البلاد والعباد واجبة.
برهامى هنا لا ينافق السيسى، هو فقط يحاول أن يلعب دور المحلل الشرعى، وهى وظيفة أعتقد أن السيسى ليس فى حاجة إليها، ولذلك لم يلتفت إليها، وإن كانت فى اعتقادى زادته يقينا بأنه لم يفسد مصر إلا الدين السياسى، هذا الدين الذى يحركه الهوى وتسيره المصالح والمطامع أيضاً.
وصلنا إلى محطة محمد حسان، الشيخ الذى كان مدللا خلال الفترة الانتقالية التى حكمها طنطاوى وعنان، كان هو رسول المجلس العسكرى إلى مناطق التوتر الطائفى، رحلة محمد حسان مع السيسى بدأت بالتوافق التام وانتهت بقطيعة كبيرة، كان السيسى يعرف جيدا الدور الذى يقوم به محمد حسان.. كان يتابعه عن قرب، التقى به فى مكتبه واستمع منه كثيرا، عرف حجم شعبيته وقدرته على التأثير، لكنه أدرك أيضا أن هذا كله تلاشى تدريجيا بعد أن لعبت السياسة برأس الشيخ.
لم يكن السيسى معجبا بدور محمد حسان خلال الفترة الانتقالية، حيث كان يتم الاعتماد عليه فى إنهاء الأزمات الطائفية، ولم يكن الشيخ يفعل أكثر من حماية المجرمين من خلال الحلول العرفية، وهو ما كان يهدر دولة القانون، وقد كرر محمد حسان هذا عندما توسط من أجل مجرمى كرداسة قبل اقتحامها، فقد اشترط أن يتفاوضوا مع الجهات الأمنى، وإن لم يصلوا إلى اتفاق يعودوا مرة أخرى إلى ديارهم، وهو ما تم رفضه تماما.. فلم يعد دور حامى المجرمين منطقيا ولا مقبولا.
محمد حسان حاول أن يلعب دورا فى التقريب بين الإخوان والسيسى بعد عزل مرسى، وفى 3 أغسطس 2013 اصطحب معه بعض المشايخ وذهب إلى وزير الدفاع فى مكتبه، كان إلى جواره هناك الدكتور محمد مختار المهدى رئيس الجمعيات الشرعية والدكتور محمد أبوموسى عضو هيئة كبار العلماء.
كان السيسى متفهما لمسعى الشيخ، ولم يعترض على تقريب وجهات النظر، ولم يعلق على ما قاله محمد حسان بعد أن خرج من عنده، قال الشيخ عبر خطبة علنية: لقد أسمعتهم ما يرضى ربنا وذكرتهم بحرمة الدماء وضرورة حقنها، وأن فض اعتصامات الشباب فى الميادين بالقوة كارثة ومصيبة.. وقبل أن يمضى طلب إطلاق سراح المعتقلين وإسقاط جميع القضايا.
لم يستجب الإخوان لمسعى محمد حسان، فاعتبر السيسى ما وعد به لاغيا، وفى اللحظة التى كان يتم فيها فض اعتصامى رابعة والنهضة، اتصل حسان بمكتب الفريق السيسى، وقبل أن يرحب به أحد قال لمن رد عليه: أوقفوا فض الاعتصامات فورا، ولم يكن هناك إلا رد واحد: وقت الكلام انتهى.
كان ما جرى من المشايخ الكبار أمام السيسى كافيا ليتأكد أن تدينه يكفيه، وأن هؤلاء ليسوا إلا تجار دين لا أكثر ولا أقل، ولذلك كانت رسالته إليهم دقيقة وحاسمة، قال: حاسبوا وانتم بتتعاملوا مع المصريين.. فلستم أنتم المؤمنون وهم الكافرون.
موضوعات متعلقة :
محمد الباز يكتب: "صائد الأفاعى".. المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى.. المفتاح الأول الاستقامة .. قصة الشائعات التى أطلقها سامى عنان ضد الفريق.. ودور الشاطر فى صياغة شعار «يسقط حكم العسكر»
صائد الافاعى .. " الحلقة الثانية " ..المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى .. قصة تسجيلات «العادلى» السرية على المجلس العسكرى ودور السيسى فى التوصل إليها
صائد الأفاعى " الحلقة الثالثة " .. المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى وجه لاعب البوكر الذى أدخل الإخوان المصيدة .. محمد مرسى طلب من المشير طنطاوى التوسط لتخفيف الصدام مع وزير الدفاع
الإخوان قاموا بتسويق السيسى على أنه متدين وملتزم.. وبعد الثورة زعموا أنه عدو الإسلام
من طقوس السيسى اليومية أنه يقرأ القرآن لأمه المريضة حتى تنام ولا ينصرف إلا بعد أن يسمع دعوتها: ربنا يوقف لك ولاد الحلال
أحد أساتذته فى كلية الحرب الأمريكية: تلميذى مسلم تقى ورغم تدينه الواضح فلا يوجد أى دليل على انتمائه للإخوان
من بين ما حرص عليه سعيد حسين السيسى، تحفيظ أولاده الثلاثة «أحمد وعبدالفتاح وحسين» القرآن الكريم، قد تكون طبيعة حى الجمالية الشعبى الروحانية التى استمدها من قربه من منطقة الحسين والأزهر، هى التى دفعت الأب إلى ذلك، لكن فى كل الأحوال لم يكن ما حدث شيئا غريبا، فالأسر المصرية فى الغالب تحرص على تعليم وتحفيظ أولادها القرآن الكريم، إن لم يكن لأسباب تتعلق بالإيمان والعقيدة، فلأسباب تتعلق بأن القرآن قراءة وحفظا، يمكن أن يساعد فى تطوير لغة من يداوم عليه.
ولأن أسرة السيسى كانت من بين الأسر المتوسطة التى تمارس الإسلام على الطريقة المصرية، فكان لابد أن يجلس الأبناء الثلاثة أمام محفظ يلقنهم القرآن قراءة وحفظا، ورغم أن عبدالفتاح كان الابن الأوسط، فإنه كان الأكثر اجتهادا والأحرص على الحفظ والتحصيل من أخويه.. ومن بين نوادره أنه عندما كان يتردد على حى الجمالية، ويجالس بعض أبناء العائلات هناك، كان يمتحنهم فى مسائل الحساب ويسمع لهم ما حفظوه من آيات القرآن الكريم.
من يجالسون عبدالفتاح السيسى أشاروا لى إلى أنه يحرص على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة فى حديثه العادى، بل يضيف إلى ذلك فى مواضع كثيرة كلمات مأثورة منسوبة إلى حكماء وفلاسفة وعلماء دين مشهورين، بما يشير إلى أنه قارئ فى الدين بطريقة راقية جدا، وهى الطريقة التى تجعلنا نصف ما يقوم به على أنه رقى معرفى، فهو لا يلجأ إلى الدين من أجل الخداع، ولكن من أجل الإقناع، وربما للتدليل أحيانا على وجهة نظر معينة.
من هنا يظهر لنا المفتاح الرابع من مفاتيح شخصية السيسى.. وهو مفتاح الوسطى.
يعيدنا ذلك إلى ما قاله عنه الدكتور ياسر برهامى، نائب رئيس الدعوة السلفية، فقد أشار فى معرض دفاعه عنه بعد ثورة يونيو أن السيسى يصلى، ومن أسرة متدينة تدين الشعب المصرى.. وهو التدين الذى يظهر لنا أنه حريص على الدماء وبعيد عن سفكها.
لا نختزل الأمر عندما نصف تدين السيسى بأنه تدين وسطى، وقد يكون على وجه التحديد، هو الذى أدى به إلى الصدام مع الإخوان المسلمين، فقد رأى لديهم إسلاما غير الإسلام الذى يعرفه، رأى لديهم دينا يحرضهم على العنف والإقصاء والتعالى على الآخرين، وجد لديهم عقيدة تجعلهم يتعاملون مع أنفسهم على أنهم شعب الله المختار، وجدهم لا يتورعون عن ذبح الإسلام من أجل الحفاظ على السلطة.
اكتشاف السيسى لهذا النمط من تدين الإخوان، جعله لا يخضع لكل أشكال الابتزاز التى يمارسها ضده صبيان الجماعات الإسلامية، منهم من كفره واتهمه بأنه ارتد عن الإسلام، ومنهم من اتهمه بأنه ليس عدو المشروع الإسلامى فى الحكم فقط، ولكنه عدو الإسلام أيضا، منهم من حاول تخويفه بالله فى أكثر من موضع وبأن الدماء التى سالت ستظل فى رقبته إلى يوم القيامة، لكنه لم يهتز لإدراكه أن هؤلاء تجار دين وليسوا متدينين بحق، لا يعملون من أجل الله بل يستغلون اسمه لتحقيق مصالحهم، ولذلك فإن كل دعواتهم واتهاماتهم باطلة، لأنها وليدة الهوى وليست ابنة الحق.
إدراك السيسى لدين الإخوان المسلمين ولغيرهم من الجماعات الإسلامية لم يأت نتيجة معايشة فقط، ولكن نتيجة دراسة أيضا، فقد كان ملف التيارات الإسلامية السياسية أحد الملفات الكثيرة التى عمل عليها خلال تواجده فى المخابرات الحربية.
استمع فقط لما تحدث به عنهم فى حواره المطول مع جريدة المصرى اليوم.
قال: الإشكالية فى الأمر ودون الإساءة إلى أى أحد نابعة من البناء الفكرى والعقائدى لهذه المجموعة - يقصد الإخوان المسلمين - وبالمناسبة هذا لا يقدح فيهم، لكنه يؤثر على جهودهم فى إدارة أى دولة، إن هناك فارقا كبيرا جدا بين النسق العقائدى والنسق الفكرى لأى جماعة، وبين النسق الفكرى والعقائدى للدولة، ولابد أن يتناغم الاثنان مع بعضهما، لأنه حين يحدث التصادم بينهما تبدأ المشكلة.
يضيف السيسى: حين يتناغم الاثنان مع بعضهما «نسق العقيدة ونسق الدولة» يجب أن يصعد أحدهما للآخر، إما أن تصعد الدولة إلى الجماعة، وهذا أمر مستحيل، وإما أن تصعد الجماعة إلى الدولة من خلال التخلى عن النسق العقائدى والدينى، وهذا أمر أعتقد أنهم لم يستطيعوا فعله، لأن هذا يتصادم مع البناء الفكرى للمجموعة، وسيبقى هذا الفارق بين النسقين مؤديا إلى وضع متقاطع يقود إلى وجود مشاكل وفوارق تجعل الناس تشعر بهذا الوضع وتخرج للتظاهر.
يقترب السيسى أكثر وأكثر من توضيح مقصده، فهو يعتبر أن إسلام المواطن العادى غير إسلام الجماعة غير إسلام الدولة كلها، هناك أشياء الفرد قد يقبلها ويتعايش معها فى ظل معتقداته، ولا أحد يستطيع أن يجادله فيها، لكن فى إسلام الجماعة نحن أمام مجموعة التقت على أفكار هم أحرار فيها، لكن لا تستطيع أن تسحب إجماعها على أمر ما وتجبر الناس عليه، وهذه هى الإشكالية الموجودة فى إسلام الجماعة، لأنه لا يمتد إلى إسلام الدولة الذى هو أكثر اتساعا ومرونة، لأن حجم الاجتهاد فيه ضخم، والاجتهاد فى كل الأحوال لن يضر لأننا لو أصبنا فى هذا الاجتهاد فسنحصل على أجرين.
يدرك السيسى أكثر من غيره أن ما حدث من جماعة الإخوان المسلمين فى الحكم كان الأكثر ضررا بالإسلام، وهو الضرر الذى جاء بسبب ممارساتهم التى جعلوا من خلالها الإسلام مرادفا للقتل والدم والتدمير والتخريب.
كان طبيعيا أن يكفر السيسى بدين الإخوان المسلمين، لأنه كان دينا للسيطرة، مرسى قال له: إن الجماعة جاءت لتحكم خمسة قرون دفعة واحدة.. وهو ما جعله يدرك أن المعضلة بين مرسى والشعب نشأت من مفهوم الإخوان عن الدولة، فالأيديولوجية التى اعتمدت لبناء البلد كانت تقوم على استعادة الإمبراطورية الإسلامية، وهو ما جعل مرسى ليس رئيسا للمصريين، ولكن لأتباعه ومؤيديه وجماعته التى تدين بنفس نمط إسلامه.
لقد حاول أتباع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها اللعب على وتر التشكيك فى تدين وزير الدفاع، وكان هدفهم واضحا، أرادوا أن يصوره بأنه أيضا كان يستخدم الدين لخداع الإخوان والسلفيين حتى يتقرب منهم، ومن بين ما تم تسريبه، أن السيسى عندما كان يحضر بعض الاجتماعات مع محمد مرسى كان يقطع الاجتماعات، ويتصل بزوجته ليقول لها لا تنس أن تذكرى الأولاد بالصلاة جماعة فى المسجد، ولا تدعيهم يصلون فى البيت، كما أنه، وفى حضور بعض مشايخ السلفية، قال: إن ابنته تريد ارتداء النقاب لكنه يخشى أن تخلعه بعد ذلك، وساعتها سيغضب منها غضبا شديدا.
نشر الإخوان هذا اللغو الفارغ على مواقعهم وفى صفحاتهم مدللين به على أن السيسى كان يمارس حالة من الخداع مع مرسى ورجاله، حتى يطمئنوا له، وفى اللحظة المناسبة يضرب ضربته وهم غافلون، وأقول: إن الكلام لغو فارغ، لأنه يفتقد المنطق، فأولاده الثلاثة متزوجون ولديهم بيوتهم الخاصة وأولادهم، وليسوا صغارا حتى تذكرهم والدتهم بالصلاة فى المسجد، ثم إن ابنته خريجة الأكاديمية البحرية.. فكيف يتسنى لها أن ترتدى النقاب، ثم إن الجماعة كانت تعرف عن السيسى تدينه وحرصه على الصلاة فى وقتها، ولم تكن فى حاجة إلى دليل على ذلك.
حالة الهمجية التى تعامل بها الإخوان المسلمين من خلال التحرش بتدين السيسى لم يقع فيها أحد أساتذته فى كلية الحرب الأمريكية وهو البروفيسور ستيفن جراس، قال عنه: تلميذى مسلم تقى ولديه معرفة عميقة بدينه، ورغم تدينه الواضح، فلا يوجد أى دليل على انتمائه لتيار الإسلام السياسى أو الإخوان.
شىء من هذا قاله أيضا فرانك فيلبيس أحد زملاء السيسى فى كلية الحرب الأمريكية، يقول عنه: رغم تدينه وقيامه بالصلاة بزملائه، فإنه لم يفرض ما يؤمن به على أحد أبدا، فلم يكن أبدا متعصبا، ولكنه كان رجلا وطنيا كريما.
يتعامل السيسى مع تدينه على أنه شىء بينه وبين ربه، وهى صيغة تجعل الذين يخافون على مدنية الدولة يطمئنون إليه، فليس هو الرجل الذى يخلط الدين بالسياسة، لأنه يعرف جيدا أن خلط الدين بالسياسة سيضر الدين ضررا بالغا، وفىالوقت نفسه لن يفيد السياسة بأى حال من الأحوال.
فى إجابته على سؤال عما فعله بعد أن قرأ بيان عزل محمد مرسى فى 3 يوليو؟
قال: إنه ذهب لوالدته التى كانت فى حالة سيئة وفى حالة لا تسمح لها بأن تقرأ الأحداث، ولأنه مرتبط بها ارتباطا شديدا، فقد ذهب إليها ربما ليلتمس منها العون والروح، وكم كان دعاؤها عذبا، عندما قالت له: ربنا يحميك من كل شر.. فمن يدرى فربما ورغم أنها لا تستطيع قراءة الأحداث المحيطة بها، فإنها تعرف جيدا وتقدر الشر الذى يتربص بابنها.
هل جاءت سيرة والدة السيسى هنا عرضا؟
هل أقحمناها على حديث نقرأ من خلاله نمط تدين ابنها الذى جعله يرفض حالة التشدد المقيتة التى مارسها الإخوان المسلمين وهم يحكمون شعبا أكثر ما يزعجه هو التضييق عليه والمزايدة على إيمانه، حتى لو لم يكن ملتزما بما يكفى، وحتى لو لم يكن متدينا كما ينبغى.
الأم صاحبة كلمة سر لدى ابنها، فهو بار بها، تعيش حالة صحية صعبة، ورغم أعبائه وانشغالاته الكثيرة، فإنه رفض أن تقيم عند أحد من أشقائه، تقيم معه هو، ومن طقوسه معها أنه لا ينام أبدا إلا بعد أن يمر عليها، يجلس إلى جوار سريرها، وبعد أن يطمئن على حالتها الصحية، يظل يقرأ القرآن وهو إلى جوارها، ولا ينهى القراءة إلا بعد أن يتأكد أنها راحت فى النوم.
هو يدمج ببساطة شديدة بين رغبتها فى قراءة القرآن.. وحرصه على أن يقترب من والدته التى تخصه طوال الوقت بدعوة تحرص على أن تسمعه إياها، تقول له: ربنا يوقف لك ولاد الحلال، وهى دعوة ملازمة لكل الأمهات المصريات، يضعنها فى طريق أولادهن حتى لو كانوا كبارا بما يكفى، وحتى لو كانوا قادرين على إعادة تشكيل التاريخ من جديد بكلمة يقولونها أو قرار يصدرونه.
وسطية السيسى وقدرته على أن يكون متصالحا مع نفسه هى التى جعلته يجيد التعامل مع كبار شيوخ السلفية الذين جعلوا من أنفسهم وكلاء الله على الأرض، ويريدون أن يصيغوا حياة الناس على هواهم، وربما بما يتوافق مع مصالحهم المادية الصغيرة والضيقة والدنيئة والمتدنية.
على خريطة السيسى يظهر لنا ثلاثة من شيوخ السلفية الكبار هم أبوإسحاق الحوينى وياسر برهامى ومحمد حسان، وهؤلاء جلسوا إلى السيسى فى وقت مبكر جدا من ثورة يناير، لم يكن يعرفهم بشكل مباشر، فإدارة ملفات شيوخ السلفية كانت من بين مهام جهاز أمن الدولة، وليس من مسؤوليات جهاز المخابرات الحربية، ورغم أن المخابرات الحربية كانت تتقاطع فى كثير من الملفات الداخلية مع المخابرات العامة وجهاز أمن الدولة، فإن الفترة القصيرة التى قضاها السيسى مديرا للمخابرات الحربية قبل ثورة يناير لم تمنحه فرصة الاقتراب من هؤلاء المشايخ ومعرفة حقيقتهم.
جمعت السيسى بهؤلاء المشايخ وغيرهم اجتماعات مطولة خلال الفترة الانتقالية، ذهبوا إليه كى يعرفوه، دون أن يدركوا أنه كان يمارس معهم موهبته الكبرى فى الاستماع والإنصات وعدم المقاطعة، ثم لا يقدم بين يدى محدثيه إلا تعليقاً يمكن أن يكون عابرا.
فى مكتبه بمبنى المخابرات الحربية قابل السيسى الشيخ أبوإسحاق الحوينى الذى يحتل مكانا ومكانة عند السلفيين المصريين، وكان معه وفد من المشايخ على رأسهم عبدالله شاكر، رئيس جمعية أنصار السنة، والدكتور محمد عبدالمقصود - الذى باع نفسه بعد ذلك تماما لمحمد مرسى ووقف فى احتفال نصرة سوريا بالصالة المغطاة باستاد القاهرة، ليدعو على المعارضين للرئيس الذى كان يؤمن على الدعاء بإخلاص - والدكتور محمد يسرى والدكتور محمد عبدالسلام ومحمد حسان ومصطفى العدوى.
أشار الحوينى إلى أن السيسى تحدث معهم كثيرا فى أوضاع البلاد، لكنه لم يتطرق إلى السؤال الذى سأله وقتها لمدير المخابرات الحربية.
قال له: هل ترى أنه من المناسب أن يتقدم التيار الإسلامى الآن بمرشح للرئاسة؟
ولأن السيسى مستقيم لا يراوغ ولا يناور، قال للحوينى: لا أرى ذلك صحيحا الآن، فأنتم تحتاجون لتأهيل فى الفترة المقبلة.. فالمشكلات التى تعانى منها مصر الآن كثيرة ومعقدة، وأنصحكم بعدم التقدم بمرشح الآن حتى لا يحترق.
هل كان السيسى وقتها يقرأ الغيب؟
الإجابة لا بالطبع، لكنه كان فقط يقرأ المشهد الذى تحقق تماما، وكان هو بطله بعد أكثر من عام، لم يستجب رجال التيار الإسلامى لنصيحته، بل دفعوا بأكثر من مرشح ينتمى للتيار، ووقف السلفيون فى ظهر عبدالمنعم أبوالفتوح فى الجولة الأولى، ثم أيدوا محمد مرسى فى الجولة الثانية - رغم أنهم سعوا إلى عقد اتفاقات سرية مع الفريق شفيق - وكان أن فاز بها واحد منهم، لكنه كما تنبأ السيسى سيحترق.
استشهد السيسى بعد عزل مرسى بما قاله للحوينى، ورغم أن هلافيت الشيخ السلفى تجرأوا وقال: إنه نفى أن يكون ما قاله وزير الدفاع قد حدث، إلا أن الحوينى بنفسه وعبر بيان نشرته الصفحة الرسمية لمجلس شورى العلماء، أكد الموقف، وزاد عليه ما قاله نصا: لمست أن السيسى رجل متدين واليوم أخاطب فيه هذا الجانب.
الشيخ الثانى الذى نمسك به على خريطة السيسى هو الدكتور ياسر برهامى الذى أصبح محترف سياسة أكثر منه محترف دين، جمعته هو الآخر لقاءات كثيرة مع الفريق السيسى، لكن أعتقد أن أهمها ما كشف عنه برهامى نفسه، وكان قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية.
كان برهامى قد سعى إلى أحمد شفيق، ليعقد معه اتفاقا بأنه فى حالة وصوله إلى منصب الرئيس، لا يلتفت إلى الوراء ولا يبدأ بتصفية الحسابات، وهو ما كان يريد أن يسعى إليه لدى محمد مرسى أيضا، ومن سياق الكلام يمكن أن نشير إلى أن الفريق السيسى كان وراء هذه المساعى، تركه يذهب إلى شفيق، لكن قبل أن يذهب إلى الإخوان المسلمين، سأله: هل تضمن الجماعة؟ فرد برهامى على الفور: لا أضمنهم، ولما عرض برهامى ما لديه على الإخوان وهو أن يلتزموا بالمصالحة الوطنية ولا يعملوا على إقصاء معارضيهم قالوا له لا نستطيع أن نرد عليك إلا بعد أن نعود إلى مكتب الإرشاد، وبعد يومين فقط، قالوا له لقد اتصلنا بالجيش وأنهينا الأمر معه.
مرة ثانية يظهر السيسى وهو مدرك تماما لطبيعة الإخوان المسلمين، فهو لا يطمئن إليهم، وقد تكون وجهة نظره فيهم تأكدت عندما أخبره قطب سلفى أنه لا يثق فيهم أيضاً.
برهامى حاول أن يتقاطع مع السيسى بعد أن غربت شمس مرسى، فعلى موقع صوت السلف الذى ينشر فيه برهامى فتاويه الحديثة، أشار إلى أن السيسى الآن ليس إماما بالبيعة، ولكنه متغلب بالشوكة، ومن لم تثبت إمامته شرعا وكان متغلبا، فالتعاون معه على البر والتقوى ومصلحة البلاد والعباد واجبة.
برهامى هنا لا ينافق السيسى، هو فقط يحاول أن يلعب دور المحلل الشرعى، وهى وظيفة أعتقد أن السيسى ليس فى حاجة إليها، ولذلك لم يلتفت إليها، وإن كانت فى اعتقادى زادته يقينا بأنه لم يفسد مصر إلا الدين السياسى، هذا الدين الذى يحركه الهوى وتسيره المصالح والمطامع أيضاً.
وصلنا إلى محطة محمد حسان، الشيخ الذى كان مدللا خلال الفترة الانتقالية التى حكمها طنطاوى وعنان، كان هو رسول المجلس العسكرى إلى مناطق التوتر الطائفى، رحلة محمد حسان مع السيسى بدأت بالتوافق التام وانتهت بقطيعة كبيرة، كان السيسى يعرف جيدا الدور الذى يقوم به محمد حسان.. كان يتابعه عن قرب، التقى به فى مكتبه واستمع منه كثيرا، عرف حجم شعبيته وقدرته على التأثير، لكنه أدرك أيضا أن هذا كله تلاشى تدريجيا بعد أن لعبت السياسة برأس الشيخ.
لم يكن السيسى معجبا بدور محمد حسان خلال الفترة الانتقالية، حيث كان يتم الاعتماد عليه فى إنهاء الأزمات الطائفية، ولم يكن الشيخ يفعل أكثر من حماية المجرمين من خلال الحلول العرفية، وهو ما كان يهدر دولة القانون، وقد كرر محمد حسان هذا عندما توسط من أجل مجرمى كرداسة قبل اقتحامها، فقد اشترط أن يتفاوضوا مع الجهات الأمنى، وإن لم يصلوا إلى اتفاق يعودوا مرة أخرى إلى ديارهم، وهو ما تم رفضه تماما.. فلم يعد دور حامى المجرمين منطقيا ولا مقبولا.
محمد حسان حاول أن يلعب دورا فى التقريب بين الإخوان والسيسى بعد عزل مرسى، وفى 3 أغسطس 2013 اصطحب معه بعض المشايخ وذهب إلى وزير الدفاع فى مكتبه، كان إلى جواره هناك الدكتور محمد مختار المهدى رئيس الجمعيات الشرعية والدكتور محمد أبوموسى عضو هيئة كبار العلماء.
كان السيسى متفهما لمسعى الشيخ، ولم يعترض على تقريب وجهات النظر، ولم يعلق على ما قاله محمد حسان بعد أن خرج من عنده، قال الشيخ عبر خطبة علنية: لقد أسمعتهم ما يرضى ربنا وذكرتهم بحرمة الدماء وضرورة حقنها، وأن فض اعتصامات الشباب فى الميادين بالقوة كارثة ومصيبة.. وقبل أن يمضى طلب إطلاق سراح المعتقلين وإسقاط جميع القضايا.
لم يستجب الإخوان لمسعى محمد حسان، فاعتبر السيسى ما وعد به لاغيا، وفى اللحظة التى كان يتم فيها فض اعتصامى رابعة والنهضة، اتصل حسان بمكتب الفريق السيسى، وقبل أن يرحب به أحد قال لمن رد عليه: أوقفوا فض الاعتصامات فورا، ولم يكن هناك إلا رد واحد: وقت الكلام انتهى.
كان ما جرى من المشايخ الكبار أمام السيسى كافيا ليتأكد أن تدينه يكفيه، وأن هؤلاء ليسوا إلا تجار دين لا أكثر ولا أقل، ولذلك كانت رسالته إليهم دقيقة وحاسمة، قال: حاسبوا وانتم بتتعاملوا مع المصريين.. فلستم أنتم المؤمنون وهم الكافرون.
موضوعات متعلقة :
محمد الباز يكتب: "صائد الأفاعى".. المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى.. المفتاح الأول الاستقامة .. قصة الشائعات التى أطلقها سامى عنان ضد الفريق.. ودور الشاطر فى صياغة شعار «يسقط حكم العسكر»
صائد الافاعى .. " الحلقة الثانية " ..المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى .. قصة تسجيلات «العادلى» السرية على المجلس العسكرى ودور السيسى فى التوصل إليها
صائد الأفاعى " الحلقة الثالثة " .. المفاتيح السبعة لشخصية عبدالفتاح السيسى وجه لاعب البوكر الذى أدخل الإخوان المصيدة .. محمد مرسى طلب من المشير طنطاوى التوسط لتخفيف الصدام مع وزير الدفاع