اهلا رمضان 2013/ 1434
نفحات رمضانية ,, اهلا رمضان 2013/ 1434
الحكمة من الصوم
الحمد لله الحكيم الخبير، العليم بما خلق وقدَّر وشرع وهو على كل شيء قدير، فرض على
عباده الصوم ليعلم من يتقيه، ويسمع من يناديه، ويقبل من آوى إليه، جاء برمضان،
وأنزل فيه القرآن؛ هداية للإنس والجان، فله الحمد أولاً وآخراً، وله الشكر ظاهراً
وباطناً، له الحمد في الأولى والآخرة وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على
البشير النذير، خير الأتقياء، وسيد الأنبياء، وإمام العابدين الأخفياء، كثير الجود
والصدقات لاسيما في شهر التقوى والرحمات، فصلوات الله وسلامه عليه ما هلَّ لرمضان
هلال، وما أفطر مسلم برزق حلال، وما أنفق مؤمن في سبيل الله المال، صلوات الله
وسلامه عليه وعلى صحبه والآل، أما بعد:
سمى الله - عز وجل - نفسه "الحكيم"، فشرع لعباده ما ينفعهم، وهو أعلم بذلك:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ}1،
ومما شرع وفرض صيام شهر رمضان المبارك، أياماً معدودات، وفي صومها من الحكم
والبركات ما يشرح النفوس المؤمنات، ويفرح الأرواح الطاهرات.
نقف لحظات قصيرات مع بعض أسرار وحكم الصوم علَّنا أن ندرك ما تقوى به عزائمنا،
وتعلو به هممنا، ويزداد به إيماننا وقربنا من مولانا، وقبل الكلام عن الحكمة من
الصوم ينبغي أن نعلم أن الله يشرع الشرائع والأحكام لحِكَمٍ قد نعلمها وقد لا
نعلمها، وقد شرع الصيام وأوجبه على عباده لحِكَم عديدة، وفوائد عظيمة في الدنيا
والآخرة، من تلك الحكم:
1- ما ذكره الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2،
فبين - سبحانه وتعالى - أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى مزية عظيمة، وهي جماع
الخير، ويجدها الصائم عندما يترك طعامه وشرابه، ولا يلاحظ أحداً من الناس، قد علم
أن الله مطلع عليه، يعلم سرَّه ونجواهـ فامتنع عن كل مفطر، وترك كل مفسد لصيامه،
وكل ذلك يورثه تقوى الله - جل في علاه -.
واشتمال الصيام على التقوى بينه الإمام السعدي - رحمه الله - في تفسيره حيث قال عند
آية الصيام: "فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله، واجتناب
نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب
والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها ثوابه،
فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله - تعالى -، فيترك ما
تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه؛ باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري
الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي،
ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني
إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين وهذا من خصال التقوى"3،
ويقول أبو بكر البيهقي - رحمه الله تعالى -: "قال أبو عبد الله الحليمي في مبسوط
كلامه: قد أبان الله - عز وجل - أن الصوم من أسباب التقوى، وحقيقة التقوى فعل
المأمور به والمندوب إليه، واجتناب المنهي عنه والمكروه والمنزه عنه؛ لأن المراد من
التقوى وقاية العبد نفسه من النار، وهو إنما يقي نفسه بما ذكرت"4.
2- ومن حكم الصوم ومقاصده وأسراره تزكية النفس وتطهيرها، وتهذيبها مما أصابها من
درن الذنوب والمعاصي، ويذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأجر الجزيل للصائم
لتزكو نفسه بذلك فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر
له ما تقدم من ذنبه))5،
كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظيم ثواب الصيام فعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي
وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب؛ فإن سابه
أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه))6،
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: 7..
3- والصوم يقوي العزيمة، ويربي الإرادة كما في الحديث:
((الصوم نصف الصبر))8،
وفي الحديث: ((الصبر نصف الإيمان))9،
فالصائم يصبر طاعة لله على الجوع والعطش، وكبت الغرائز والشهوات عن الحلال الذي بين
يديه يوماً كاملاً طيلة شهر كامل، فلا شك أنه بذلك يتمرس على قوة الإرادة، وصلابة
العزيمة.
4- وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد، وفي هذا
شعور بالقوة، وهو من المقاصد العظيمة التي لا بد أن يستشعرها كل مسلم، إذ أمر الله
- تعالى - بالوحدة والتمسك بها فقال: {وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ }10.
اللهم اجعلنا من أهل رمضان الذي يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، وارزقنا فيه التقوى
والعمل الصالح، آمين.
1
سورة الملك (14).
2
سورة البقرة (183).
3
تفسير السعدي (1/86).
4
شعب الإيمان لأبي بكر البيهقي (3/287).
5
صحيح البخاري (38) بلفظه، وصحيح مسلم (760).
6
صحيح البخاري (1805)، وصحيح مسلم (1151).
7
صحيح البخاري (2685)، وصحيح مسلم ( 1153) بلفظه.
8
مسند أحمد (23123)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره
وهذا إسناد رجاله ثقات غير جري بن كليب النهدي، وانظر مسند بتحقيق
الأرناؤوط (5/363).
9
المستدرك (3666)، وصححه الذهبي في تعليقه في التلخيص،
وانظر المستدرك مع كتاب تعليقات الذهبي في التلخيص (2/484).
10
سورة آل عمران (103).
رمضان شهر القرآن
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين،
أما بعد:
شهر رمضان شهر تعظم فيه الصلة بالله - عز وجل -، وبكتابه الكريم؛ تلاوةً واستماعاً،
وتدبُّراً وانتفاعاً؛ لتحيا القلوب بنديم التلاوة، وتصلح الأخلاق بمهذب الأخلاق،
وقد شهد شهر رمضان المبارك نزول القرآن الكريم أعظم كتاب على قلب النبي - صلى الله
عليه وسلم -، ومذَّاك الحين ارتبط القرآن بشهر رمضان المبارك: {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}1.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر، بل كان
أحرص ما يكون على ذلك، فكان جبريل - عليه السلام - يدارسه القرآن كله في رمضان جاء
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود
الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة
من رمضان فيدارسه القرآن"2،
وفي العام الذي توفي فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دارسه جبريل - عليه السلام
- القرآن مرتين؛ ليدل على أن أهمية هذا العمل في هذا الشهر.
وسار السلف الصالح - رحمهم الله - على ما سار عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -،
فكان لهم اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان، بل لم يكونوا يشتغلوا عنه بغيره،
فقد: "كان عبد الله بن مسعود يختم القرآن في رمضان في ثلاث، وفي غير رمضان من
الجمعة إلى الجمعة، وكان الأسود يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين، وينام فيما
بين المغرب والعشاء، وكان يختم فيما سوى ذلك في ستة"3،
"وعن حماد بن سلمة عن حميد أن ثابتاً كان يختم القرآن في كل يوم وليلة في شهر
رمضان"4،
وكان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - إذا كان أول ليلة من شهر رمضان
يجتمع إليه أصحابه، فيصلّى بهم، فيقرأ في كل ركعة عشرين آية وكذلك إلى أن يختم
القرآن، وكذلك يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في
كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة،
ويقول: عند كل ختمٍ دعوةٌ مستجابة"5.
و"عن منصور عن إبراهيم عن الأسود أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين،
وكان ينام ما بين المغرب والعشاء، وعن سعيد بن جبير أنه كان يختم القرآن في كل
ليلتين"6،
و"كان الشافعي يختم القرآن ستين ختمة في صلاة رمضان"7،
"وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال
مرة، فإذا دخل العشر ختم كل ليلة مرة"8،
"وكان ثابت البناني يختم القرآن في كل يوم وليلة من شهر رمضان"9.
أيها الأخ الكريم:
هكذا كان حال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - مع القرآن في رمضان، وهكذا سار
أصحابه - رضي الله عنهم -، وكذا التابعين - رحمهم الله - وهم من هم في الفضل، فما
حالك، وأين أنت منهم، وكم هو وردك منه في سائر الأيام، وفي رمضان بشكل آكد، فلنـتق
الله - عز وجل - في القرآن، وفي هذا الشهر المبارك.
نسأل الله - تعالى - أن يردنا إلى دينه مرداً جميلاً، وأن يهدينا ويهدي بنا إنه ولي
ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
1
سورة البقرة (185).
2
البخاري (2981)، ومسلم (4268).
3
التفسير من سنن سعيد بن منصور (1/24).
4
البيان في عد آي القرآن (1/327).
5
النشر في القراءات العشر (2/500).
6
الطبقات الكبرى لابن سعد (6/73).
7
حلية الأولياء (9/134).
8
قيام رمضان لمحمد بن نصر المروزي (1/86).
9
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/280).
نفحات رمضانية ,, اهلا رمضان 2013/ 1434
الحكمة من الصوم
الحمد لله الحكيم الخبير، العليم بما خلق وقدَّر وشرع وهو على كل شيء قدير، فرض على
عباده الصوم ليعلم من يتقيه، ويسمع من يناديه، ويقبل من آوى إليه، جاء برمضان،
وأنزل فيه القرآن؛ هداية للإنس والجان، فله الحمد أولاً وآخراً، وله الشكر ظاهراً
وباطناً، له الحمد في الأولى والآخرة وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على
البشير النذير، خير الأتقياء، وسيد الأنبياء، وإمام العابدين الأخفياء، كثير الجود
والصدقات لاسيما في شهر التقوى والرحمات، فصلوات الله وسلامه عليه ما هلَّ لرمضان
هلال، وما أفطر مسلم برزق حلال، وما أنفق مؤمن في سبيل الله المال، صلوات الله
وسلامه عليه وعلى صحبه والآل، أما بعد:
سمى الله - عز وجل - نفسه "الحكيم"، فشرع لعباده ما ينفعهم، وهو أعلم بذلك:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ}1،
ومما شرع وفرض صيام شهر رمضان المبارك، أياماً معدودات، وفي صومها من الحكم
والبركات ما يشرح النفوس المؤمنات، ويفرح الأرواح الطاهرات.
نقف لحظات قصيرات مع بعض أسرار وحكم الصوم علَّنا أن ندرك ما تقوى به عزائمنا،
وتعلو به هممنا، ويزداد به إيماننا وقربنا من مولانا، وقبل الكلام عن الحكمة من
الصوم ينبغي أن نعلم أن الله يشرع الشرائع والأحكام لحِكَمٍ قد نعلمها وقد لا
نعلمها، وقد شرع الصيام وأوجبه على عباده لحِكَم عديدة، وفوائد عظيمة في الدنيا
والآخرة، من تلك الحكم:
1- ما ذكره الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2،
فبين - سبحانه وتعالى - أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى مزية عظيمة، وهي جماع
الخير، ويجدها الصائم عندما يترك طعامه وشرابه، ولا يلاحظ أحداً من الناس، قد علم
أن الله مطلع عليه، يعلم سرَّه ونجواهـ فامتنع عن كل مفطر، وترك كل مفسد لصيامه،
وكل ذلك يورثه تقوى الله - جل في علاه -.
واشتمال الصيام على التقوى بينه الإمام السعدي - رحمه الله - في تفسيره حيث قال عند
آية الصيام: "فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله، واجتناب
نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب
والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها ثوابه،
فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله - تعالى -، فيترك ما
تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه؛ باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري
الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي،
ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني
إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين وهذا من خصال التقوى"3،
ويقول أبو بكر البيهقي - رحمه الله تعالى -: "قال أبو عبد الله الحليمي في مبسوط
كلامه: قد أبان الله - عز وجل - أن الصوم من أسباب التقوى، وحقيقة التقوى فعل
المأمور به والمندوب إليه، واجتناب المنهي عنه والمكروه والمنزه عنه؛ لأن المراد من
التقوى وقاية العبد نفسه من النار، وهو إنما يقي نفسه بما ذكرت"4.
2- ومن حكم الصوم ومقاصده وأسراره تزكية النفس وتطهيرها، وتهذيبها مما أصابها من
درن الذنوب والمعاصي، ويذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأجر الجزيل للصائم
لتزكو نفسه بذلك فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر
له ما تقدم من ذنبه))5،
كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظيم ثواب الصيام فعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي
وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب؛ فإن سابه
أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه))6،
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: 7..
3- والصوم يقوي العزيمة، ويربي الإرادة كما في الحديث:
((الصوم نصف الصبر))8،
وفي الحديث: ((الصبر نصف الإيمان))9،
فالصائم يصبر طاعة لله على الجوع والعطش، وكبت الغرائز والشهوات عن الحلال الذي بين
يديه يوماً كاملاً طيلة شهر كامل، فلا شك أنه بذلك يتمرس على قوة الإرادة، وصلابة
العزيمة.
4- وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد، وفي هذا
شعور بالقوة، وهو من المقاصد العظيمة التي لا بد أن يستشعرها كل مسلم، إذ أمر الله
- تعالى - بالوحدة والتمسك بها فقال: {وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ }10.
اللهم اجعلنا من أهل رمضان الذي يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، وارزقنا فيه التقوى
والعمل الصالح، آمين.
1
سورة الملك (14).
2
سورة البقرة (183).
3
تفسير السعدي (1/86).
4
شعب الإيمان لأبي بكر البيهقي (3/287).
5
صحيح البخاري (38) بلفظه، وصحيح مسلم (760).
6
صحيح البخاري (1805)، وصحيح مسلم (1151).
7
صحيح البخاري (2685)، وصحيح مسلم ( 1153) بلفظه.
8
مسند أحمد (23123)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره
وهذا إسناد رجاله ثقات غير جري بن كليب النهدي، وانظر مسند بتحقيق
الأرناؤوط (5/363).
9
المستدرك (3666)، وصححه الذهبي في تعليقه في التلخيص،
وانظر المستدرك مع كتاب تعليقات الذهبي في التلخيص (2/484).
10
سورة آل عمران (103).
رمضان شهر القرآن
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين،
أما بعد:
شهر رمضان شهر تعظم فيه الصلة بالله - عز وجل -، وبكتابه الكريم؛ تلاوةً واستماعاً،
وتدبُّراً وانتفاعاً؛ لتحيا القلوب بنديم التلاوة، وتصلح الأخلاق بمهذب الأخلاق،
وقد شهد شهر رمضان المبارك نزول القرآن الكريم أعظم كتاب على قلب النبي - صلى الله
عليه وسلم -، ومذَّاك الحين ارتبط القرآن بشهر رمضان المبارك: {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}1.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر، بل كان
أحرص ما يكون على ذلك، فكان جبريل - عليه السلام - يدارسه القرآن كله في رمضان جاء
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود
الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة
من رمضان فيدارسه القرآن"2،
وفي العام الذي توفي فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دارسه جبريل - عليه السلام
- القرآن مرتين؛ ليدل على أن أهمية هذا العمل في هذا الشهر.
وسار السلف الصالح - رحمهم الله - على ما سار عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -،
فكان لهم اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان، بل لم يكونوا يشتغلوا عنه بغيره،
فقد: "كان عبد الله بن مسعود يختم القرآن في رمضان في ثلاث، وفي غير رمضان من
الجمعة إلى الجمعة، وكان الأسود يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين، وينام فيما
بين المغرب والعشاء، وكان يختم فيما سوى ذلك في ستة"3،
"وعن حماد بن سلمة عن حميد أن ثابتاً كان يختم القرآن في كل يوم وليلة في شهر
رمضان"4،
وكان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - إذا كان أول ليلة من شهر رمضان
يجتمع إليه أصحابه، فيصلّى بهم، فيقرأ في كل ركعة عشرين آية وكذلك إلى أن يختم
القرآن، وكذلك يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في
كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة،
ويقول: عند كل ختمٍ دعوةٌ مستجابة"5.
و"عن منصور عن إبراهيم عن الأسود أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين،
وكان ينام ما بين المغرب والعشاء، وعن سعيد بن جبير أنه كان يختم القرآن في كل
ليلتين"6،
و"كان الشافعي يختم القرآن ستين ختمة في صلاة رمضان"7،
"وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال
مرة، فإذا دخل العشر ختم كل ليلة مرة"8،
"وكان ثابت البناني يختم القرآن في كل يوم وليلة من شهر رمضان"9.
أيها الأخ الكريم:
هكذا كان حال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - مع القرآن في رمضان، وهكذا سار
أصحابه - رضي الله عنهم -، وكذا التابعين - رحمهم الله - وهم من هم في الفضل، فما
حالك، وأين أنت منهم، وكم هو وردك منه في سائر الأيام، وفي رمضان بشكل آكد، فلنـتق
الله - عز وجل - في القرآن، وفي هذا الشهر المبارك.
نسأل الله - تعالى - أن يردنا إلى دينه مرداً جميلاً، وأن يهدينا ويهدي بنا إنه ولي
ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
1
سورة البقرة (185).
2
البخاري (2981)، ومسلم (4268).
3
التفسير من سنن سعيد بن منصور (1/24).
4
البيان في عد آي القرآن (1/327).
5
النشر في القراءات العشر (2/500).
6
الطبقات الكبرى لابن سعد (6/73).
7
حلية الأولياء (9/134).
8
قيام رمضان لمحمد بن نصر المروزي (1/86).
9
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/280).